الجمعة، 2 يناير 2015

التكامل بين القضاء الدولي والقضاء الوطني

المقدمة:
يعد القضاء الجنائي الوطني من أهم مؤسسات المجتمع لإقامة العدل بين أفراد الشعب وحمايتهم، ودعت المتغيرات الدولية إلى ضرورة إيجاد قضاء جنائي دولي يرتكز على المقومات الشرعية الجنائية الدولية للحد من الويلات التي تعاني منها الشعوب نتيجة الحروب والمنازعات الدولية، وجاء ذلك بعد الحرب العالمية الثانية من خلال تشكيل محكمتي نورمبورغ وطوكيو، ثم جاءت محكمة يوغوسلافيا السابقة ومحكمة روندا لتتفادى العديد من الانتقادات الموجهة للقضاء الجنائي الدولي، ووصولاً للمحكمة الجنائية الدولية التي تفادت بنجاح أكبر وأفضل لهذه الانتقادات، ووفقاً لتعدد أنواع المحاكم الجنائية الدولية التي لها حق الاختصاص بالنظر في الجرائم الدولية وكذلك تعدد أنواع المحاكم الوطنية التي لها الاختصاص ذاته بالنظر في الجرائم الدولية ذاتها بفعل مبدأ التكامل بين الاختصاص القضائي الجنائي الدولي والاختصاص القضائي الجنائي الوطني، وبذلك تنبع أهمية الدراسة لتوضح بأنه ما دام أصبح بالامكان تصور أن تدعي أكثر من محكمة جنائية دولية أو أكثر من محكمة جنائية وطنية معاً بأن كلاً منها ذات الاختصاص بالنظر في جريمة معينة في وقت يجب أن ينعقد الاختصاص القضائي لإحداها فقط وذلك وفقاً لما جاء به النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية، الذي يعطي أولوية الاختصاص للقضاء الجنائي الوطني، فإذا امتنع هذا القضاء من ممارسة ولايته الجنائية لسبب من الأسباب أو لعدم رغبته في مباشرة اختصاصه فإن الاختصاص حينئذ ينعقد للمحكمة الجنائية الدولية بوصفها قضاء مكملاً للقضاء الوطني.
ستدفعنا دراسة مبدأ التكامل في الاختصاص بين المحكمة الجنائية والقضاء الوطني إلى التطرق للإطار القانوني للمحكمة الجنائية الدولية، ومن ثم تبيان طبيعة العلاقة بين المحكمة الجنائية الدولية والقضاء الوطني، وأخيراً لتنازع الاختصاص بين المحكمة الجنائية الدولية والمحاكم الوطنية.

أولاً: الإطار القانوني للمحكمة الجنائية الدولية.
علينا التطرق لتوضيح التأصيل القانوني للمحكمة الجنائية الدولية لظروف نشأتها واختصاصاتها والعلاقة بين هذه الاختصاصات بتحقيق السلم والأمن الدوليين.
أنشئت المحكمة الجنائية الدولية تحت رعاية منظمة الأمم المتحدة بعد إقرار مشروع نظامها الأساسي في المؤتمر الدبلوماسي المنعقد في روما عام 1998م، وقد دخل هذا النظام حيز النفاذ في 1/7/2002، وكان الهدف من إنشائها هو معاقبة مرتكبي الجرائم الدولية التي من بينها الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والإبادة الجماعية وجريمة العدوان.
فتعتبر المحكمة الجنائية الدولية هي هيئة دولية دائمة لها سلطة ممارسة اختصاصها على الأشخاص الذين يرتكبون الجرائم ضد المجتمع الدولي، وهذا الاختصاص مكمل لاختصاصات القضاء الوطني، وتتمتع المحكمة بالشخصية القانونية الدولية ولها الأهلية القانونية لممارسة وظائفها في محاكمة ومعاقبة مرتكبي الجرائم الدولية، فتعد من جهة القانون الدولي بأنها جهاز قضائي دولي مستقل.
تمنح الدول الأطراف في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية إلزامية تلقائياً باختصاص النظر للمحكمة في الجرائم المحددة في النظام الاساسي، وهذا ما أشارت إليه صراحة الفقرة الأولي من المادة 12 من النظام الأساسي، أما الدول غير الأطراف في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية فهي غير ملزمة ومستبعدة من اختصاص النظر للمحكمة في الجرائم المحددة في النظام الاساسي ولها أن تقبل هذا الاختصاص في حالات معينة وبصدد جريمة محددة كأن تقع الجريمة على إقليمها أو كان المتهم أحد رعاياها.
"ويقتصر اختصاص المحكمة على أشد الجرائم خطورة موضوع اهتمام المجتمع الدولي بأسره، وللمحكمة بموجب هذا النظام الأساسي اختصاص النظر في الجرائم الآتية:
1.    جريمة الإبادة الجماعية.
2.    الجرائم ضد الإنسانية.
3.    جرائم الحرب.
4.    جريمة العدوان."
ويعتبر هذا الاختصاص الموضوعي "النوعي" للمحكمة الجنائية الدولية.
وذهبت المادة 25 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية إلى أن اختصاص المحكمة يثبت على الأشخاص الطبيعيين فقط، وأن الشخص المعنوي الذي يرتكب الجريمة تدخل في اختصاص المحكمة يكون مسؤولاً عنها بصفته الفردية، وبهذا يبتعد النظام الأساسي للمحكمة من اختصاصاته الدول والمنظمات الدولية، مع التوضيح بأن المسئولية الجنائية للشخص الطبيعي لا تمس المسئولية المدنية للشخص المعنوي وتحديداً للدول والمنظمات الدولية حيث تلتزم كل منها بتعويض الأضرار الناشئة عن أفعالها عند ثبوت المسئولية عليهما.
بذلك متى أصبحت الدولة طرفاً في النظام الاساسي للمحكمة فإنها تقبل اختصاص المحكمة على الجرائم المنصوص عليها في المادة 5 من هذا النظام، وتكون ملزمة بالتعاون الكامل مع المحكمة وتقديم من تطلبه للمحكمة من أشخاص متواجدين على إقليمها سواء من رعاياها أو من رعايا دولة أخرى.
أما الاختصاص المكاني للمحكمة فقد حددته المادة 12 من النظام الأساسي للمحكمة، وجاء ذلك بعد مداولات عديدة لللجنة المختصة لمناقشة هذا المشروع، فذهب البعض إلى اقتصار شرط القبول على الدولة التي وقع فيها الفعل والتي لها مصلحة خاصة في إجراء الملاحقات أو الدولة المختصة، وآخرون أشاروا بأنه لا يلزم إلا موافقة الدولة التي ارتكبت على أراضيها الجريمة أو الدولة المتحفظة، واشترط البعض الآخر موافقة دولة جنسية المتهم من شأنه أن يعقد ممارسة الاختصاصات من جانب المجكمة الجنائية الدولية في حالة تعدد المتهمين، وانتهو كما أشرنا سابقاً إلى أن الولاية الإقليمية للمحكمة تحدد وفق المادة 12 من النظام الأساسي.
تبنى النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية المبدأ العام المعمول به في أغلب الأنظمة القانونية الجنائية في العالم الذي يقضي بعدم جواز تطبيق القانون الجنائي بأثر رجعي، ومقتضى ذلك أن نصوص النظام الأساسي تسري بأثر فوري أو مباشر ولا تطبق إلا على الوقائع التي تقع منذ تاريخ نفاذه، ولا تسري أحكامه على الوقائع التي حدثت قبل هذا التاريخ، وقد تم تأكيد هذا الحكم بنص المادة 24 من النظام الأساسي، ولكن هذه المرة بصيغة أخرى، ففي الوقت الذي أكدت فيه الفقرة التانية من المادة 12 عدم سريان أحكام النظام الأساسي في مواجهة الدول إلا فيما يتعلق بالجرائم التي ترتكب بعد بدء نفاذ هذا النظام الأساسي، وأشارت الفقرة الأولى من المادة 24 إلى عدم مساءلة الشخص جنائياً بموجب هذا النظام الأساسي عن سلوك ارتكب قبل بدء نفاذ هذا النظام، كما تبنت هذه المادة في فقرتها الثانية مبدأ القانون الأصلح للمتهم.
ويكون القانون الأصلح للمتهم إذا كان لا يعاقب على فعل كان يعد جريمة في ظل القانون القديم أو كان يخفف من العقوبة قياساً بالقانون القديم الذي ارتكبت في ظله الجريمة، ومن الجدير بالذكر أنه من الممكن توسيع نطاق الاختصاص الزماني للمحكمة وذلك في حالتين: فالحالة الأولى تتمثل في قيام دولة غير طرف بإصدار إعلان بقبول ولاية المحكمة وهذا ما تقتضي به المادة (12/3) من النظام الأساسي، حيث يمتد اختصاص المحكمة ليشمل المدة التي تسبق هذا القبول ومن ثم يتسع ليشمل الجرائم التي ارتكبت بعد نفاذ النظام الأساسي كلها –بمعنى منذ تاريخ 1/7/2002 وليس من تاريخ إعلان القبول باختصاص المحكمة- وهو تؤكده المادة (11/2) من النظام الأساسي.
أما الحالة الثانية فتتمثل في إحالات مجلس الأمن عملاً بالمادة (13/ب) من نظام المحكمة، فمن شأن قيام مجلس الأمن بإحالة حالة ما إلى المحكمة أن يوسع نطاق الاختصاص الزماني للمحكمة بأن يرجعه إلى تاريخ دخول نظام المحكمة حيز النفاذ وليس إلى تاريخ الإحالة.

ثانياً: طبيعة العلاقة بين المحكمة الجنائية الدولية والقضاء الوطني.
تبنى واضعو النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية مبدأ التكامل الذي أعطى الأولوية القضائية الوطنية على ولاية المحكمة في النظر للجرائم التي تدخل في اختصاصها.
قد حددت المحكمة في ديباجتها طبيعة العلاقة بينها وبين القضاء الجنائي الوطني، حيث أكدت الفقرة العاشرة من الديباجة أن المحكمة الجنائية الدولية المنشأة بموجب هذا النظام ستكون مكملة للولايات القضائية الجنائية الوطنية.
ومن ثم جاءت المادة 1 المنشأة للمحكمة لتدعم ما جاء في ديباجتها، حيث نصت على أن "تنشأ بهذا محكمة جنائية دولية وتكون المحكمة هيئة دائمة لها السلطة لممارسة اختصاصها إزاء أشد الجرائم خطورة موضع الاهتمام الدولي، وذلك على النحو المشار إليه في هذا النظام الأساسي، وتكون المحكمة مكملة للولايات القضائية الجنائية الوطنية، ويخضع اختصاص المحكمة وأسلوب عملها لهذا النظام الأساسي"، ويتضح من ذلك الاختصاص بالمعاقبة على الجرائم الخطرة موضوع الاهتمام الدولي ينعقد بالأصل على القضاء الوطني، وعلى الرغم من تأكيد ولاية القضاء الوطني التي يجب أن تنعقد بالأصل إلا إنه جاءت المادة 17 المتعلقة بالمقبولية لتنص على:
1.    "تقرر المحكمة أن الدعوة غير مقبولة في حالة:
‌أ.       إذا كانت تجري التحقيق أو المقاضاة في الدعوة دولة لها ولاية عليها، مالم تكن هذه الدولة غير راغبة في الاضطلاع بالتحقيق أو المقاضاة أو غير قادرة على ذلك.
‌ب.  إذا كانت قد أجرت التحقيق في الدعوى دولة لها ولاية عليها وقررت الدولة عدم مقاضاة الشخص المعني، مالم يكن القرار ناتجاً عن عدم رغبة الدولة أو عدم قدرتها حقاً على المقاضاة.
‌ج.    إذا كان الشخص المعني قد سبق أو حوكم على السلوك موضوع الشكوى، ولا يجوز للمحكمة إجراء المحاكمة طبقاً للفقرة الثالثة من المادة (20).
‌د.      إذا لم تكن الدعوى على درجة كافية من الخطورة تبرر اتخاذ المحكمة إجراء آخر لتحديد عدم الرغبة في دعوة معينة تنظر المحكمة في مدى توافر واحد أو اكثر من الأمور التالية، حسب الحالة مع مراعاة أصول المحاكمات التي يعترف بها القانون الدولي:
v    إذا جرى الاضطلاع بالاجراءات أو جرى الاضطلاع بها أو جرى اتخاذ القرار الوطني بغرض حماية الشخص المعني من المسئولية الجنائية عن جرائم داخلة في اختصاص المحكمة على النحو المشار إليه في المادة 5.
v    إذا حدث تأخير لا مبرر له في الاجراءات بما يتعارض في هذه الظروف مع نية تقديم الشخص المعني إلى العدالة.
v    إذا لم تباشر الاجراءات أو لا ترى مباشرتها بشكل مستقل أو نزيه أو بوشرت أو تجرى مباشرتها على نحو لا يتفق في هذه الظروف مع نية تقديم الشخص المعني للعدالة.
2.    لتحديد عدم القدرة في دعوة معينة، تنظر المحكمة هل الدولة غير قادرة بسبب انهيار كلي أو جوهري لنظامها القضائي أو الوطني أو بسبب عدم توافره على إحضار المتهم أو الحصول على الأدلة والشهادة الضرورية أو غير قادرة لسبب آخر على الاضطلاع باجراءاتها".
يتضح من ذلك أن النظام الأساسي للمحكمة قد قيد ولاية القضاء الوطني وأحقيته في نظر الدعوى التي لها ولاية عليها بقدرة الدولة المعنية ورغبتها في ذلك، أي إمكانية أن تلك المحاكمة بصورة حقيقية وجادة وتستوفي فيها جميع الاجراءات القضائية بشفافية كاملة وأن لا تكون من قبيل المحاكمات الصورية التي تهدف إلى حماية الشخص المعني من الملاحقة الدولية، وأيضاً قيدت ولاية القضاء الدولي بعدم القدرة على مباشرة الاجراءات القضائية نتيجة لانهيار النظام القضائي نفسه بداخل الدولة.
بالرغم من أن النظام الأساسي للمحكمة قد حدد طبيعة العلاقة بين المحكمة الجنائية الدولية والقضاء الوطني إلا أن ذلك لم يمنع الكثير من الجدل الذي أثير حول أحقية المحكمة الجنائية الدولية بنظر بعض الدعاوي، وذلك نظراً إلى عدم الوضوح الذي شاب العلاقة بينها وبين مجلس الأمن في كثير من الجوانب، فالعديد من التناقضات في مواقف مجلس الأمن تجاه بعض القضايا والوقائع المتشابهة التي تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية فبينما أحيل النزاع في إقليم دارفور للمحكمة الجنائية الدولية من قبل مجلس الأمن وفقاً للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة لم يحل الاحتلال الاسرائيلي للمحكمة بينما الوقائع والجرائم متشابهه، وقد أشار إليها تقرير بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق في النزاع في غزة 2008-2009 بوضوح، وإذا تفحصنا بشكل واقعي للنظام الاساسي للمحكمة فإننا نكشف بأن الدول المنشأة له أصرت على استبدال عبارة "أن المحكمة ستكون مكملة للنظم القضائية" بعبارة "مكملة للولاية القضائية الجنائية الوطنية"، حيث أرادت الدول الكبرى من ذلك أن تمارس المحكمة رقابة على السلطة القضائية للدول الأعضاء.

ثالثاً: تنازع الاختصاص القضائي بين المحكمة الجنائية الدولية والمحاكم الوطنية.
سنناقش مسألة تنازع الاختصاص بين المحكمة الجنائية الدولية والقضاء الوطني من خلال دراسة الاختصاص القضائي للمحكمة بالاختصاص القضائي للدول الأطراف في المحكمة، وكذلك للدول غير الأطراف.
1.    صلة الاختصاص القضائي للمحكمة الجنائية الدولية بالاختصاص القضائي للدول الأطراف في نظام روما الأساسي.
بحكم الصلة بين الاختصاص القضائي للمحكمة الجنائية الدولية والاختصاص القضائي الوطني للدول الأطراف، فقد نص نظام روما على مبدأ التكامل –وفق ما نصت عليه الديباجه والمادة 1 من نظام المحكمة- المتضمن أن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية في حكم الجرائم الداخلة في اختصاصها هو اختصاص تكميلي.
فمن الواضح أن الاختصاص الأصيل والأساسي في حكم الجرائم المنصوص عليها في نظام روما للقضاء الجنائي الوطني, ولكن إن عدنا لأحكام المادة 17 فإننا في واقع الحال نجد أن هذه الأحكام تبدد الآمال من عدم نشوب تنازع في الاختصاص بين المحكمة الجنائية الدولية والمحاكم الوطنية للدول الأطراف، وذلك لأنها نصت في البندين أ و ب على استثنائين ينعقد بناء عليهما اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، ولا يخفى أن هذه الاستثناءات تعطل أو تقيد القاعدة العامة التي أرساها مبدأ التكامل وبالتالي قد يؤدي ذلك إلى احتمال تنازع في الاختصاص بين المحكمة الجنائية الدولية والقضاء الوطني في الدول الأطراف.
2.    صلة الاختصاص القضائي للمحكمة الجنائية الدولية بالاختصاص القضائي للدول غير الأطراف في نظام روما الأساسي.

إن مبدأ التكامل لا ينطبق إلا بين الاختصاص القضائي للمحكمة الجنائية الدولية وبين القضاء الجنائي الوطني للدول الأطراف المحكمة، لكن من الناحية الواقعية قد تقوم الدول غير الأطراف بإصدار تشريع ينص على معاقبة مرتكبي الجرائم الدولية الداخلة في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بموجب نظام روما الأساسي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق