الأربعاء، 28 أكتوبر 2015

مقبرة الأرقام...

مقبرة الأرقام
لا زالت دولة الاحتلال الاسرائيلي تحتجز العديد من الجثامين لشهداء فلسطينيين وعرب سقطوا في ظروف مختلفة، وتلك الجثث تجتجز في ثلاجات أو مقابر سرية تقع في مناطق عسكرية مغلقة ويمنع زيارتها أو الاقتراب منها أو تصويرها، وهي عبارة عن مدافن بسيطة أحيطت بالحجارة بدون شواهد ومثبت فوقها لوحات معدنية تحمل أرقاماً بعضها تلاشى بشكل كامل، إذ أن كل شهيد يحمل رقماً معيناً ولهذا سميت بمقابر الأرقام، ولكل رقم ملف خاص تحتفظ به الجهة الأمنية المسئولة، ويشمل المعلومات والبيانات الخاصة بكل شهيد، ومقابر الأرقام عبارة عن مقابر بسيطة تفتقر إلى الأهلية والشرعية، وتوضع فيها الجثامين على عمق قليل مما يبقيها عرضه للانجراف وللنهش من قبل الكلاب الضالة.
تم الكشف عن أربعة مقابر للأرقام، إلا أن جهات عديدة ترجح وجود عدد سري آخر يخضع لرقابة وزارة جيش الاحتلال الاسرائيلي، وتعد مقبرة "جسر بنات يعقوب" الواقعة في منطقة عسكرية عند ملتقى حدود فلسطين وسوريا ولبنان، أكبر هذه المقابر حجماً حيث تضم وفق احصائيات اسرائيلية 500 شهيد من جنسيات فلسطينية ولبنانية وسورية وأردنية، وليس ثمة ما يدل على هويات من فيها سوى لوحات الصفيح التي تحمل أرقاماً محيت بمرور الزمن، وتعتبر مقبرة "ريفيديم" في غور الأردن والتي تسميها اسرائيل مقبرة "قتلى الأعداء" ثاني أكبر هذه المقابر، حيث يرقد فيها رفات نحو 100 شهيد نصفهم من جنسيات عربية سقطوا بعد حرب 1973، والنصف الآخر لمواطنين استشهد معظمهم في عمليات أو اشتباكات مع قوات الاحتلال الاسرائيلي أو تم اغتيالهم من قبل دولة الاحتلال الاسرائيلي ومن بينهم نحو 30 شهيد نفذوا عمليات فدائية منذ العام 1994، كما سربت أنباء عن مقبرتين أخريين للأرقام، غير معلوم كم تتضمن من الرفات، لكن قيل أن إحداهما مجاورة لمقبرة ريفيديم والأخرى تسمى "بمقبرة شحيطة" الواقعة في قرية واد الحمام شمالي طبريا حيث وقعت معركة حطين، وهناك مقبرة أخرى افتتحها الاحتلال الاسرائيلي في منتصف التسعينات هي مقبرة تقع في منطقة صحراء النقب.
وقد أكدت اللجنة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء والكشف عن مصير المفقودين قرابة 345 شهيد فلسطيني تحتفظ دولة الاحتلال الاسرائيلي بجثامينهم، وجاء ذلك وفقاً بالاتصال المباشر مع عائلاتهم، وتستخدم هذه الجثث كرهائن لتحقيق أهداف سياسية دون الالتفاف إلى البعد الانساني والمعاناة التي تعيشها عوائل هؤلاء الشهداء، مع الإشارة إلى إن الاصرار على احتجاز جثامين الشهداء يستهدف إخفاء الحقائق والتهرب من المسئولية عن جرائم الحرب التي ترتكبها دولة الاحتلال الاسرائيلي، وخاصة استخدام أعضاء الكثيرين منهم كقطع غيار بشرية وتعرض أعضاؤهم للسرقة.
فقد نشرت صحيفة "افتونبلاديت" السويدية بتاريخ أغسطس 2009 تقرير اتهمت فيه قوات الاحتلال الاسرائيلي بقتل شبان فلسطينيين عمداً في قطاع غزة والضفة الغربية بهدف سرقة أعضاؤهم الداخلية والمتاجرة بها، عبر شبكة دولية ضبطت بتاريخ يوليو 2009 في الولايات المتحدة، وضمت في عضويتهما حاخامات يهود وتم اتهامهم بالاتجار بالأعضاء البشرية وتبييض الأموال بشكل غير شرعي، وإضافة لذلك أوضح التقرير فلسطينيين خطفوا من قراهم في منتصف اليل ودفنوا بعد انتزاع أعضائهم.
في إشارة واضحة، أكد التلفزيون الاسرائيلي صحة ما تم نشره حول سرقة الأعضاء من الموتى الفلسطينيين، وأن أعضاء كالقرنيات والعظام إضافة إلى جلد الظهر كانت تنتزع من الشهداء دون موافقة عائلاتهم، وبين "يهودا هس" مسئول الطب التشريحي والقضائي السابق في معهد أبو كبير في دولة الاحتلال الاسرائيلي كيفية انتزاع الأعضاء من جثث الشهداء الفلسطينيين وما كان يحدث في الخفاء مع معهد التشريح، وقال هس "كنا نأخذ القرنيات ولم نكن نخلع العين، نغطي مكان القرنية ونغلق العين، وكنا نفعل ذلك من أجل البحث العلمي".

إن هذه الجرائم التي ترتكب بحق رفات أسرانا تستوجب تشكيل لجنة دولية للتحقيق في هذه الجرائم وفي كافة جرائم القتل والاعدام المباشر وغير المباشر للأسرى والمعتقلين بعد اعتقالهم باعتبارها انتهاكاً فاضحاً للقانون الدولي الإنساني والقيم الإنسانية والأخلاقية والدينية.

الجمعة، 3 أبريل 2015

العدالة الانتقالية

المقدمة:
إن الانتقال إلى الديمقراطية ليس عملية سهلة تتم بالتداعي، ولكنه طريق شاق يحتاج إلى نضال طويل كما يحتاج إلى إصرار وإلا فسوف نجد أنفسنا قد استبدلنا نظاماً استبدادياً بنظام آخر يشبهه بالضبط، فالعدالة الانتقالية طريق لجأت إليه شعوب سبقتنا، فأسهمت في انتقالها من حالة الحرب إلى السلم، أو من القهر والقمع إلى الديمقراطية الحقيقة، وعلينا أن نعي أن العدالة الانتقالية ليست وصفة سحرية سوف تنهي كل مشاكلنا، وإنما هي خريطة طريق علينا أن نمضي فيها، ويبقى النضال والإصرار على الانتقال إلى الديمقراطية هو الضمان الحقيقي.
فإن استلهام خبرات التاريخ يؤكد أن طي صفحة الماضي دون قراءة متمعنة يؤدي إلى الانتقال من استبداد لآخر، وأن تجاهل تركة الماضي وتركها دون علاج جعل الانتهاكات أو المجازر تنتقل من كونها مسئوليات فردية وجماعية إلى مسئوليات يتحمل وزرها الجميع، وبالتالي أدت إلى تأسيس حقب جديدة من الانتهاكات الجسيمة.
فالعدالة الانتقالية تعد موضوعاً جديداً في المنطقة العربية لكنها تقع في صميم التحول والانتقال الديمقراطي، فهي ليست مفتاحاً سحرياً لمعالجة مشاكل الانتقال الديمقراطي ولكنها آلية لمعالجة ماضي انتهاكات حقوق الإنسان ضمن سلسلة من الآليات التي تتبناها الدول للانتقال إلى الديمقراطية، وبالتالي فهي آلية مكملة للعمل المطلوب الذي من المفترض إتمامه على المستوى السياسي وعلى المستوى التشريعي وعلى المستوي الإجرائي في المجتمع الذي يمر بهذه التحولات.
خصائص العدالة الانتقالية:
توجد ثلاث خصائص مهمة تميز العدالة الانتقالية، وهي اعتمادها على مقاربة شمولية ومتكاملة في معالجه إرث الانتهاكات الجسيمة، إذ إنها لا تقف فقط عند حد التقصي في الجرائم وتحديد المسئولين ومعاقبتهم، بل تعمل أيضاً على جبر الضرر ورد الاعتبار للضحايا وإنصافهم، واتخاذ الإجراءات الكفيلة بعدم تكرار الانتهاكات، وإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة، وتعزيز السلم والديمقراطية، كما تتسم العدالة الانتقالية بقدرتها على الإبقاء على التوازن المطلوب لخدمه مختلف الأهداف والمقاصد، حسب خصائص كل مجتمع ومتقضيات الواقع، وفي ضوء موازين القوى القائمة.
وتتميز العدالة الانتقالية باعتمادها على مقاربة تكون الضحية في مركزها ويكون رد الاعتبار لها، وهذا ما يستدعي العمل بأقصى جهد لكي يقوم مسار العدالة الانتقالية الذي تتبناه دولة ما بدعم الضحايا أو انخراطهم ومشاركتهم فيه واستفادتهم من نتائجه.
ومن الجدير بالذكر أن اللجوء إلى العدالة الانتقالية يتم عادة في بلدان عرفت انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وبالتالي فإنها تكون مطالبة بمعالجة ما جرى في فترات من الماضي وبالتوازي مع ذلك يكون عليها مواجهة تحديات في الحاضر مرتبطة بإرساء الاستقرار والأمن وتحقيق الديمقراطية ودولة القانون، ونظراً لهشاشة الأوضاع الداخلية التي تتسم بها المراحل الانتقالية وكذلك تواجد مختلف القوى بشكل متوازن بما فيها القوى المحافظة، فإن الأمر يستدعي تحديد الأولويات حسب سياق كل بلد وكل مرحلة، فكل تجربة لها خصائصها وأولوياتها وضغوطها.
ويمكننا أن نحقق الانتقال الديمقراطي مع معالجة إرث الماضي وضغوط الحاضر مع ضمان للسلم والأمن والتوجه نحو المستقبل من خلال إصلاح مؤسسات الدولة وتشريعاتها وبناء الديمقراطية وتحقيق التنمية وضمان سيادة القانون، فإن اللجوء إلى هذه المقاربة كآلية يستلزم أولاً –وقبل كل شيء– توفر إرادة سياسية صريحة لدى الدولة، وحد أدنى من التوافق بين أبرز الفرقاء السياسيين داخل البلد، وإشراك المجتمع المدني والإعلام وممثلي الضحايا وأسرهم في هذه العملية، وهنا تتدخل بطبيعة الحال الأهداف المتوخاة من هذه الديناميكية.
الأركان المكونة للعدالة الانتقالية:
لقد أفرزت التجارب الدولية في مجال العدالة الانتقالية أركاناً ارتكزت على القانون الدولي لحقوق الإنسان والمعايير التي تبلورت في معالجة الانتهاكات وتعقيد أسسها ومكوناتها.
وتوجد خمسة مكونات أساسية تتألف منها آلية العدالة الانتقالية وهي: المحاسبة والكشف عن الحقيقة وجبر الضرر وإصلاح المؤسسات والمصالحة، ولا يشكل ترتيب هذه الأركان الأولوية لمكون عن الآخر بل هو ضرورة منهجية، فالمفروض أن تأخذ مقاربة العدالة الانتقالية هذه المكونات كاملة، ونتناول فيما يلي كل مكون من هذه المكونات بشئ من التفصيل.
فتعد المحاسبة عن انتهاكات حقوق الإنسان واتخاذ الإجراءات الجزائية في حق مرتكبيها مسئولية الدولة، وذلك طبقاً لمقتضيات القانون الدولي والالتزامات التي أخذتها كل دولة على عاتقها من خلال انضمامها إلى عدد من الاتفاقيات والمعاهدات والمواثيق التي صادقت عليها، إلا أن التجارب الدولية توضح أن هذا الإلزام يبقى معتمداً بشكل أو بآخر على توافر الإرادة السياسية والأولويات المحددة في سياق البناء الديمقراطي ومدى توفر المؤهلات اللازمة لاضطلاع القضاء بدوره كاملاً وبتجرد، وهذا يفسر الاختلاف والتباين في أولويات الدول في عدة تجارب دولية، منها تشيلي واسبانيا والمغرب ويوغسلافيا.
إن تطبيق مبدأ المحاسبة يأخذ في الاعتبار دون شك التقدير السياسي لوضعية البلد والأهداف المتوخاة في كل مرحلة، لكن دون أن يعني ذلك تخلي الدولة عن التزاماتها في هذا المجال، وقد عبر "ألكس بورين"[1] عن ذلك بقوله: "إن كل المحاولات الدولية لتحقيق العدالة تعكس تسويات سياسية جد واقعية، وجلنا يعلم أن استحداث المحاكم لا يعدو أن يكون مجرد بديل باهت للعمل الوقائي، وأن متابعة بعض مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان دون معظمهم يشكل ببساطة مظهراً من مظاهر السياسة الواقعية، وبصيغة أخرى، لا شك أن للقانون حدوداً إذ كلما جرت انتهاكات لحقوق الإنسان على نطاق واسع –كما هو الحال في يوغسلافيا سابقاً أو في رواندا أو سيراليون– كان من المستحيل متابعة الجميع، فبينما يمنح القانون الجنائي الدولي قدراً من المؤاخذة في مواجهة جرائم فظيعة، هناك حدود لما يمكن أن نحققه"، ولذلك فالمحاسبة الجنائية تبقى خياراً له دواعيه وأهدافه في مسلسل معالجة ماضي الانتهاكات وتتمثل أساساً في المساهمة في الردع عن ارتكاب انتهاكات جديدة، والتعبير عن الإدانة الرسمية للجرائم وتعكس انخراط الدولة في بناء مقومات احترام القانون وبناء الثقة في سياسة الدولة ومؤسساتها.
ويلاحظ وجود العديد من التحديات التي تحول من التفعيل الكامل لهذه المتابعات مثل طول أجل التقاضي في بعض الأحيان فضلاً عن تكاليفه ومستلزماته من حيث البراهين والشهود، واستمرار القضاة القدامى في مواقعهم ودرجة انخراطهم في دينامية الانتقال مع ضمان المحاكمة العادلة، كما أن كثرة المسئولين عن السياسة السابقة –سواء على مستوى وضع الخطط أو تنفيذها– يجعل المحاسبة تتسم بنوع من الانتقائية وهشاشة مرحلة بناء السلم والانتقال الديمقراطي الناشئ، وبالرغم من هذه التحديات إلا أن هذا لا يعني إلغاء المتابعات من جدول الأعمال، بل ينبغي إدراجها ضمن استراتيجية التأهيل والإصلاح المؤسساتي للانتقال بما يكفل تحقيق العدل.
أما المكون الثاني من مكونات العدالة الانتقالية فهو الكشف عن الحقيقة، فغالباً ما يبرز خلال المراحل الانتقالية الحاجة إلى فهم ما جرى وسببه خاصة وأن التعتيم الممارس من قبل أنظمة الاستبداد والقمع يجعل فظاعات حقوق الإنسان وانتهاكاتها المرتكبة غير معروفة من حيث أبعادها ومكوناتها وحجمها ومجالاتها.
وعلينا أن نعي أن الحقيقة ليست مطلقة، وأن لها أشكال عديدة فهناك مكونات متعددة لها، من أبرزها الحقيقة الجنائية، التي تعرض على القضاء بكل ما تستوجبه من حجج وأدلة وشهود ومرتكز قانوني ويوجد السرد الفردي الذي يعكس حقيقة المعاناة الفردية في خضم انتهاكات حقوق الإنسان وتوفر لنا أدبيات وشهادات وأفلام وثائقية هذا البعد بكل ما يعكسه من آلام وفظاعات ومعاناة إنسانية، وكذلك توجد الحقيقة السياسية، وتمثل مقاربة الفاعلين السياسيين لماض محدد زماناً ومكاناً وأدوار مختلف الهيئات والمؤسسات الحزبية والدولية، وهناك الحقيقة التاريخية.
وتسعى العدالة الانتقالية إلى الكشف عن الحقيقة بجمعها –قدر المستطاع– بين هذه المكونات من خلال التقصي والإنصات للضحايا وذويهم، وتمكين المجتمع من معرفة ما جرى عبر توفير إمكانيات التعبير لكل الفرقاء من خلال الإبداع والكتابة والإعلام والصحافة وجلسات الاستماع وغيرها، ومن الآليات غير القضائية التي برزت بشكل لافت خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي لجان الحقيقة، وقد بدأ استخدام هذه الآلية في أمريكيا الجنوبية ثم انتشرت في العديد من أرجاء العالم، حيث تم تشكيل أكثر من ثلاثين هيئة للكشف عن الحقيقة حققت درجات متفاوتة من النجاح، وتتسم هذه اللجان بمجموعة من الخصائص التي يجب أن تتوفر فيها، حيث يجب أن تكون هيئة للتقصي، وأن يتم تشكيلها بشكل رسمي من قبل الدولة، وأن تتمتع بنوع من الاستقلالية عن الدولة، وتكون لها سلطة محددة بموجب القانون المنشئ لها، وأن تعمل في إطار نطاق زمني محدد، كما تتسم بكونها هيئات غير قضائية، وأن ينصب عملها على أحداث الماضي كذلك يجب أن تنحصر ولاية هذه اللجان في تقصي انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان أو القانون الدولي الإنساني، ويحدد القانون المنشئ لها الانتهاكات التي سيشملها عملها والمدة الزمنية المغطاة ويفترض من هذه اللجان إعطاء الأولوية للضحايا ومعاناتهم، وأخيراً تنهي عملها بتقرير وتوصيات.
لقد استطاعت آلية لجان الحقيقة أن تساعد على دعم مسلسل التحول الديمقراطي في العديد من التجارب من خلال معالجة شاملة للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، مع التأكيد على أنها لا تقف عند حد المحاكمات، بل تتسع إلى معرفة حقيقة ما جرى وخلق دينامية للحوار والنقاش العمومي بشأنه بمشاركة الضحايا ومختلف الأطراف السياسية والمدنية والنقابية، إضافة إلى العاملين في مؤسسات الدولة وغيرهم، وفي خضم هذا المسار تبلورت آليات لدعم ذلك اكتسبت أهمية بالغة كان أبرزها جلسات الاستماع العمومية التي تقدم فيها الشهادات حول ما جرى والتي عرفتها بعض التجارب مثل بيرو وجنوب افريقيا والمغرب، وقد أعطت بعض اللجان صلاحيات خاصة مثل العفو "المشروط" الذي كان بيد لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب افريقيا، أو تحديد تعويضات وإعطائها كما في هيئة الإنصاف والمصالحة كما حدث في المغرب.
أما مفهوم جبر الضرر اتسع ليوضح بأنه أكبر من كونه تعويضاً مادياً للضحايا بل يمتد ليصبح بمثابة إقرار بمسئولية الدولة عن انتهاكات حقوق الإنسان وبوجوب جبر الأضرار المترتبة عن ذلك وفقاً لمقتضيات القانون الدولي، كما أن ذلك جزء من رد الاعتبار يأخذ في الحسبان انعكاسات ما تعرض له الضحايا وأوضاعهم المهنية والمالية وممتلكاتهم وانعكاسات ذلك على أسرهم، وقد تمت بلورة مجموعة من المعايير الدولية خلال عقود تراكمت فيها النظريات والآليات ذات الصلة بمفهوم جبر الضرر، والتي كان من أبرزها مساهمات عدد من الخبراء، كالهولندي "تبوفان بوفن" والفرنسي "جواييى" والمصري "شريف بسيوني" وغيرهم كثر، كما أغنت التجارب الدولية من خلال عمل لجان الحقيقة ذلك عبر برامج تنوعت أشكالها وتدابيرها، ويأخذ جبر الضرر عدة أبعاد مثل، جبر الضرر الفردي الذي يواجه الضحايا وأسرهم ويشمل التعويض والعلاج وإعادة الإدماج والرعاية الصحية، كما يوجد جبر الضرر الجماعي الذي يختص بجماعات ومناطق قد تكون عاشت أوضاعهم خاصة من حيث سياسات القمع أو الإبادة أو التهميش الشامل جراء مواقف سياسية أو مساندة طرف سياسي، وأخيراً جبر الضرر القائم على مقاربة النوع ويهدف إلى معالجة الوضعية الخاصة للنساء ضحايا الانتهاكات، وإذا كان البعد الأول قد عرف تطوراً  ملموساً من حيث التعقيد والبلورة، فإن الجانبين الآخرين لا زالا في طور الإثراء من حيث الأسس النظرية والتجارب الدولية، رغم التقدم المحرز في هذا الشأن.
أما المكون الرابع وهو إصلاح المؤسسات، فهو مرحلة أساسياً من مراحل الانتقال الديمقراطي، حيث تكون للحروب والحروب الأهلية وللأنظمة الاستبدادية انعكاسات مدمرة على مؤسسات الدولة والعاملين بها، ويتم توجيه الجميع لخدمة سياسة ممنهجة للقمع والإخضاع، وعادة ما يؤدي ذلك إلى خرق للقانون وتوظيفه وعدم الخضوع للرقابة والعمل بالتعليمات والتجاوزات والارتشاء وغيره، وهذا ما يستدعي الإصلاح المؤسساتي بوصفه أحد المداخل الأساسية لضمان عدم تكرار ما جرى من انتهاكات، وتوفير الضمانات الدستورية والقانونية للحماية من ذلك ويشمل هذا الإصلاح عدة مجالات من أبرزها الإصلاح الدستوري، ومراجعة القوانين وضمان استقلال القضاء والنهوض به وإخضاع مؤسسات الأمن للرقابة وتوفير شروط الحكامة الجيدة –الرشيدة- على قاعدة من الشفافية والمساءلة وتدريب موظفي الدولة العاملين في القضاء والأمن والجيش والإعلام، وعادة ما يتم تحديد أولويات الإصلاح المؤسساتي من خلال تقرير لجنة الحقيقة الذي يرصد واقع الانتهاكات والمؤسسات المسئولة عنها بالدرجة الأولى ومواطن الخلل في التشريعات التي سمحت بذلك.
وقد أوضحت التقارير الصادرة عن هذه اللجان أولوية إصلاح المؤسسات الأمنية نظراً لأدوارها في مراحل الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وفي هذا الإطار لاشك أن معالجة الموضوع تكون بدورها مرتبطة بخصائص كل تجربة وسياقها وانعكاسات الإجراءات المتخذة على الانتقال الديمقراطي وضمان استمراريته، وتبرز التجارب الدولية لاختلاف وتباين بين الدول بشأن معالجة مسألة إصلاح المؤسسات الأمنية وتداعياتها حسب سياق كل بلد.
أما المكون الخامس من مكونات العدالة الانتقالية هو المصالحة، والمصالحة لا تعني –كما قد يتبادر إلى الذهن– عموماً طمس الحقيقة وطي الصفحة دون قراءتها بل إنها تعد هدفاً يتم تحقيقه من خلال إنجاز باقي المكونات المشار إليها من معرفة للحقيقة والنقاش العمومي وإصلاح المؤسسات وجبر الضرر وما إلى ذلك، فالمصالحة لا تعني النسيان لأنه لابد من الحفاظ على الذاكرة بما يمكن الشعوب من استخلاص الدروس لكي لا يتكرر ما جرى، ولاشك أن مسلسل بناء المصالحة له مداخل كثيرة منها، السياسي والقانوني وإحداث آليات للحوار وبناء الأرضية المشتركة بين الفرقاء وإرساء مرتكزات مشروع مجتمعي مشترك يستوجب الدفاع عنه من قبل المجتمع.
إن المصالحة من وجهة نظر العدالة الانتقالية مسلسل ووسيلة وهدف، يتم بناؤها بالتدرج في أفق واسع يحتضنه المجتمع بكافة مكوناته ويبني الثقة ويبعث الأمل والاطمئنان لدى المواطن.
لقد ركز "أيلوين"[2] على ما اعتبره حداً أدنى لإنجاح المصالحة حين قدم له التقرير النهائي للجنة الحقيقة على هذا النحو: "إن المشكلة العويصة لانتهاكات حقوق الإنسان والجرائم البشعة الأخرى التي أودت بحياة العديد من الضحايا وتسببت في الكثير من الآلام في الماضي ما زالت قائمة، إنها جرح مفتوح في روحنا الوطنية لا يمكن أن نتجاهله، كما لا يمكن التئامه بالنسيان فقط، أن نغمض أعيننا وندعي أن كل ذلك لم يحدث أبداً يعني أن نترك في صميم مجتمعنا مصدراً  للألم والفتنة والكراهية والعنف، لا يمكن لأي شيء غير الكشف عن الحقيقة والسعي وراء الإنصاف، أن يخلق الأجواء المعنوية التي يمكن للمصالحة والسلم الازدهار في كفنها".
إننا بهذا المعنى نكون أمام مسلسل يتم بناؤه بمشاركة كافة الفرقاء وإرساء قواعده بعمل دؤوب وإرادة سياسية قوية لتجاوز مخلفات الماضي وبناء الحاضر مع استحضار متطلبات ذلك وإعمال باقي المكونات الأخرى المشكلة للعدالة الانتقالية.
فعلى الرغم من خصوصية كل حالة إلا أن المقاربة الشمولية للعدالة الانتقالية تمنح فرصة فعلية لتحقيق قدر من المحاسبة والحقيقة والمصالحة والالتئام وقدر من التحول وبعض التعويضات لصالح الضحايا ولبلوغ هذه الغاية المتواضعة لابد من الالتزام والحكمة والرأفة وذلك أضعف الإيمان إزاء من يطالبون بالاستماع إليهم، إنهم يطلبون أن يبنى عالماً حيث يموت الناس على سريرهم وهم مطمئنون حين يقضي أجلهم محاطين بأصدقاء الأمس وجيران الغد.
العدالة الانتقالية ومعايير الأمم المتحدة:
لزاماً أن نقوم بتوضيح الفارق الجوهري بين مفهومي "العفو" أو "الصفح" من جانب و"طمس الحقائق" من جانب آخر، فهذه مسألة أساسية، إذ ليس هناك امكانية للحديث عن العدالة دون أن تكون الحقيقة ركناً أساسياً في مسألة الانتقال، ولاسيما في مجتمعاتنا التي عانت من كل أشكال تكميم الأفواه وتقييد حرية الرأي والتعبير، وكذلك فإن الاعتراف بالانتهاك الذي تعرض له الضحية ومساءلة من ارتكبه هو أمر أساسي فلا حديث عن عدالة دون تقويض فرصة الجاني في الإفلات من العقاب وإدانته، ويقع العفو في المساحة ما بين الإدانة والعقاب، ومن ثم لا حديث عن عفو دون أن تثبت الإدانة، فكيف نعفو عن مذنب مجهول الهوية، فهذا المعنى من العفو يكون طمساً لما عاناه الضحايا من الأنظمة الاستبدادية، وكذلك تعنى العدالة الانتقالية بإعادة إقامة القواعد التي تحكم العيش المشترك في المجتمع وتحديدها والعلاقة بين المواطن والمؤسسات، أو بمعنى آخر، أن تؤسس لقواعد جديدة يكون على المؤسسات والمجتمع والأفراد احترامها.
ولا يقتصر مبدأ جبر الضرر فقط على الضحايا، وإنما يمتد ليشمل المسائل الاقتصادية والاجتماعية، وفيما يخص الأمم المتحدة نعرف أن العدالة الانتقالية تتمثل في مسألتين، مسألة الانتقال من الأنظمة التسلطية والاستبدادية إلى الديمقراطية الناشئة، والانتقال من حالات النزاع والحروب الأهلية إلى السلم، ومن هنا جاء دور المصالحة كمسألة جوهرية، ولكن المصالحة مع من، وما هي أسسها، فالعدالة تتأثر بالظروف السياسية التي تنشأ فيها بشكل أو بآخر، ففي اليمن –على سبيل المثال– اقتصر تعريف العدالة على المصالحة دون المساءلة.
ومن هنا فإن نهج الأمم المتحدة بالنسبة للعدالة الانتقالية هو امتداد للقواعد والمعايير الدولية وخاصة القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، وتلك المنظومة القانونية أقرت مبدأ عدم الإفلات من العقاب لا سيما ما يخص الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
ومن المعروف أن الأمم المتحدة لا تدعم مبدئياً أي اتفاق فيما يخص غياب العدالة الانتقالية بالنسبة للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، ويميل نهج الأمم المتحدة إلى مراعاة الصالح السياسي وربط السلم الاجتماعي بتحقيق العدالة الانتقالية في المساءلة فضلاً عن ضمان حقوق المرأة، ويركز أيضاً نهج الأمم المتحدة بشأن العدالة الانتقالية على المكانة المركزية للضحايا فغالباً ما يغيب عن المجتمع وأثناء فترات الانتقال أن إعادة الحق إلى الضحايا هو أول مطالب العدالة وهو أمر أساسي، لأن إقرار السلم يستدعي السلام الجماعي.
وأخيراً يجدر التنويه إلى أن العدالة الانتقالية هي مسألة تختلف تماماً عن العدالة الانتقائية، وخاصة في سياق تأسيس آليات جديدة لمؤسسات الدولة وإصلاح المؤسسات القائمة، وهي مسألة ترتبط بآليات العدالة الانتقالية ارتباطاً وثيقاً.




[1] نائب رئيس لجنة الحقيقة والمصالحة بجنوب إفريقيا، والرئيس المؤسس للمركز الدولي للعدالة الانتقالية.
[2] الرئيس الشيلي.

الأربعاء، 7 يناير 2015

العلاقات الامريكية السعودية بعد ثورات الربيع العربي

المقدمة:
شهدت العلاقات الأمريكية السعودية على امتداد العقود الستة الماضية حالات تقارب وتباعد وفقاً رؤية الطرفين لمصالحهما القومية، اعتماداً على الظروف السائدة في البيئتين الإقليمية والدولية.
وبخلاف الاعتقاد الشائع، لم تكن العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية في حالة وئام دائم، بل شهدت حالات من التوتر والتوتر الشديد في بعض الأوقات، كان من أبرزها هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001م، والثورة المصرية في 25 يناير 2011م، والأزمة السورية، والاتفاق المرحلي بشأن الملف النووي الايراني، وعلى الرغم من الهزات التي تعرضت لها العلاقات الأمريكية السعودية، فإنها ظلت متماسكة.
وفي السنوات الأخيرة، ظهرت الخلافات الأميركية السعودية على السطح مجدداً نتيجة اختلاف قراءة الطرفين لمجموعة من القضايا والتطورات الإقليمية، كان أهمها التعامل مع دول ثورات الربيع العربي وآخرها الانفتاح الأميركي على إيران بعد وصول الرئيس حسن روحاني إلى سدة الحكم فيها والتوقيع على اتفاق جنيف المرحلي بشأن الملف النووي الإيراني، وعلى الرغم من أن بعضهم قد ذهب إلى التأكيد على أن بنية النظامين الإقليمي والدولي لم تعد تسمح باستمرار التحالف الأمريكي السعودي، فإن القراءة الأكثر واقعية، هي أن إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما تتبع مقاربة جديدة تحاول من خلالها إدماج إيران في المنطقة بعد أن أنهكتها العقوبات، ثم تقوم بتوظيف العلاقة الجديدة معها لخدمة مصالحها في المنطقة، ولكن من دون التفريط بعلاقاتها مع السعودية وبقية دول الخليج العربي.
كما أن استقرار منطقة الخليج العربي سيبقى على رأس أولويات واهتمامات الولايات المتحدة الأمريكية في المدى المنظور، وذلك لأسباب اقتصادية واستراتيجية مرتبطة بمنطقة الخليج العربي وببنية النظام الإقليمي والدولي، والعلاقات بين القوى الكبرى أيضاً، فسوف يبقى النفط العربي هو الشريان الحيوي للاقتصاد العالمي لنحو عقدين آخرين من الزمن على الأقل، على الرغم من اكتشافات النفط والغاز الصخري في الولايات المتحدة الأمريكية.
ومن جانب آخر، لا يمكننا الاستنتاج بأن تنامي اهتمام الولايات المتحدة الامريكية بمنطقة آسيا والمحيط الهادي يعد بمنزلة انسحاب من منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي، ولكن يعد على العكس تماماً، فهذا سوف يستدعي ازدياد اهتمام الولايات المتحدة الامريكية بمنطقة الشرق الأوسط بالضرورة، وتمسك الولايات المتحدة الامريكية بحماية مصالحها في المنطقة العربية، ولكن بوسائل ومقاربات مختلفة عما كانت بالسابق.
فتنبع المشكلة البحثية لهذه الورقة من مفاد أنه يوجد علاقات بين الولايات المتحدة الامريكية والمملكة العربية السعودية تباعدت وتقاربت حسب المتغيرات الاقليمية والدولية ومصالح كل طرف في هذه المتغيرات، ويكون التساؤل الرئيس لهذه الورقة هو، هل أثرت ثورات الربيع العربي على السياسة الخارجية الامريكية والسعودية؟ وما هي مظاهر هذا التأثر؟
فستبرز أهمية هذه الورقة فى حيوية وحساسية الموضوع خصوصاً عندما يطرح في الفترة الراهنة، والتي شهدت أحداثاً وتغيرات إقليمية ودولية، وأيضاً لرغبة الباحث في التطرق لمثل هذه الموضوعات والتي تمس واقعنا العربى المعاصر ويخدم قضايانا والتي نسعى من خلال البحث العلمى للارتقاء بها إلى الأفضل ولا يتأتى لنا ذلك إلا بتضافر الجهود والطاقات والتي يكون للبحث العلمى فيها دور كبير.
وتهدف هذه الورقة إلى التعرف على:
1)       التطور التاريخي للسياسة الخارجية الأمريكية السعودية.
2)       أثر ثورات الربيع العربي على السياسة الخارجية الأمريكية السعودية.
3)       مستقبل العلاقات الأمريكية السعودية.
اعتمد الباحث على المنهجين التاليين:
1) منهج تحليل النظام الإقليمى: الذى يعد نمط منتظم من التفاعلات بين عدد من الوحدات السياسية داخل إقليم معين، إذ يعد النظام الإقليمى بأنه مستوى تحليلى وسط بين تحليل النظام العالمي وتحليل السياسة الخارجية للدول، وهو بهذا المعنى أخذ يكتسب أهمية كبيرة كمنهجية تحليلية نتيجة العديد من التطورات السياسية، وإضافة إلى تطورات أخرى فى نظرية العلاقات الدولية وظهور مدارس فكرية لها رؤى واجتهادات نقدية لمقولات "مدرسة القوة" أو ما يعرف بـ "مدرسة النظام الدولي" التى ركزت على الدول، بوصفها وحدة التحليل الأساسية، وعلى القوة واستخداماتها فى العلاقات الدولية.
فقد أشارات تلك المدارس الفكرية الجديدة إلى فواعل أخرى في النظام العالمي لا تقل أهمية عن الدول القومية، وإلى ظواهر أخرى أخذت تكتسب أهمية كبيرة نتيجة استخدام القوة مثل الاعتماد الاقتصادى المتبادل والتكامل. إن دراسة العلاقات الأمريكية السعودية تعتبر من الظواهر المثيرة للجدل لأسباب متعددة، وسوف نحاول الاقتراب من هذه العلاقة من خلال منهج تحليل النظام الإقليمى، لمعرفة كيف بدأت وأسباب هذه العلاقات، والعوامل التى قد تؤدي إلى إضعافه، كما سيمتد تحليلنا لرؤية مستقبلية نستطيع من خلالها معرفة إلى أين تتجه هذه العلاقة تحديداً، وما مدى صلابتها فى مواجهة عوامل الضغط المحيطة بها.
     2) المنهج التاريخى: وذلك من منطلق أن الظاهرة السياسية شأنها شأن الظواهر الاجتماعية الأخرى، هي تراكم لمجموعة من العوامل التى حدث بينها تفاعل مع مرور الزمن ومعالم السياسة هنا يستطيع أن يجعل التاريخ إطاراً لمعرفة الماضى والسياسة أكثر ارتباطا بالتاريخ من أى علم آخر، كما أن التاريخ يوصف بأنه علم السياسة الجارية، ولذلك ومن خلال استخدام هذا المنهج سوف نستطيع الحصول على كثير من الوثائق والمعلومات التى ستساعدنا فى التوصل إلى حقيقة تأثير العلاقات بين كل من الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية بثورات الربيع العربي.
وقد قسمت هذه الورقة إلى:
أولاً: التطور التاريخي للسياسة الخارجية الأمريكية السعودية.
ثانياً: السياسة الخارجية الأمريكية السعودية بعد الربيع العربي.
ثالثاً: مستقبل العلاقات الامريكية السعودية.

أولاً: التطور التاريخي للسياسة الخارجية الأمريكية السعودية.
نشأت وتطورت العلاقات الأمريكية السعودية منذ العقود الستة الماضية، حيث كان يشوبها حالات من المد والجزر وفقاً لرؤية الطرفين لمصالحهما القومية، وذلك وفقاً للظروف السائدة في البيئتين الإقليمية والدولية.
فامتدت العلاقات الأمريكية السعودية لأكثر من ستة عقود من الزمان، حيث قامت هذه العلاقات في البداية على مبدأ "الأمن مقابل النفط"، وبحسب هذا التفاهم تعهدت الولايات المتحدة الامريكية بضمان أمن المملكة العربية السعودية في مواجهة أي أخطار داخلية أو خارجية مقابل التزام الرياض بتأمين إمدادات نفط رخيصة للولايات المتحدة الأمريكية.
واعتبر هذا الاتفاق أحد الركائز التي قامت عليها سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط طوال سنوات الحرب الباردة، فكانت المملكة العربية السعودية تعمل على تأمين إمدادات نفط رخيصة للاقتصاد الأمريكي والعالمي، ومنع التغلغل الشيوعي في منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط، ولكنها لم تنسجم مع حماية أمن اسرائيل، ولذلك كانت صيغة هذا التفاهم مهددة بالانهيار في أي لحظة، وعلى الرغم من تنامي شكوك السعوديين في قدرة الولايات المتحدة الامريكية على الالتزام بتعهداتها فيما يتعلق بتوفير الأمن لهم إلا أنها ظلت تؤدي دور الضامن لإمدادات الطاقة للولايات المتحدة الأمريكية طوال العقود الثلاثة الأخيرة.
أما الوجه الآخر للعلاقات الأمريكية السعودية خلال فترة الحرب الباردة تمثلت في رؤية الطرفين المشتركة للخطر الشيوعي ممثلاً بالاتحاد السوفيتي وتعاونهما لمواجهته ومواجهة أخطاره، ففي فترة الخمسينات والستينات وجدت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها في تحالف مع القوى الاسلامية والأنظمة المحافظة في منطقة الشرق الأوسط وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، فقد كان الإسلاميون في عداء مع أفكار الإلحاد، فيما كانت الأنظمة المحافظة تعتبر التيارات والقوى اليسارية الحليفة لموسكو تهديداً خطيراً لوجودها واستمرارها.
ومنذ مطلع السبعينات، ومع تنامي مشاعر العداء في الداخل الأمريكي للتدخلات العسكرية المباشرة بسبب الحرب على فيتنام، اتجهت الولايات المتحدة الامريكية لتعزيز قوة حلفائها الإقليميين، وبذلك أصبحت المملكة العربية السعودية الركن الآخر في استراتيجية الولايات المتحدة الامريكية في منطقة الخليج العربي إلي جانب ايران، وقد ازداد هذا التحالف بعدما جاءت الثورة الاسلامية في ايران لتزيد من أهمية المملكة العربية السعودية في حسابات الولايات المتحدة الأمريكية، "وتحولها إلى ما اعتبره الرئيس الأمريكي جيمي كارتر الحليف الأهم للولايات المتحدة الأمريكية في الساحة الدولية".
جددت الولايات المتحدة الأمريكية التزامها بحماية مصالحها في الخليح العربي ومنع أي قوة إقليمية أو دولية من السيطرة على هذه المنطقة الاستراتيجية، وبرز ذلك عندما دخلت في مواجهة عسكرية لإخراج العراق من الكويت عام 1991م، ثم نجحت في تحجيم قدرات العراق وإيران معاً من خلال فرض "سياسة الاحتواء المزدوح"، حيث اعتبرت المملكة العربية السعودية كل ذلك بأنه تأكيد على التزام الولايات المتحدة الامريكية بمبدأ الأمن مقابل النفط.
وقد ألقت أحداث الحادي عشر من سبتمبر للعام 2001م ظلالاً ثقيلة من الشك على العلاقات الأمريكية السعودية وتزايد التوتر مع صدور دعوات من الغرب لتغيير أنظمة، وإعادة رسم خرائط، وبناء تحالفات جديدة والتخلي عن تحالفات أخرى قديمة، وقد رافق ذلك كله غموض متعمد في السياسة الأمريكية تجاه المملكة العربية السعودية تجسد في عدم التعليق على هذه الدعوات.
وكل هذا وما تبعها من تطورات، بدأت المملكة العربية السعودية تشعر بحجم الضعوط الممارسة عليها، وبخاصة بعد أن راحت دوائر غربية تدعو إلي إنهاء العمل بصيغة الأمن مقابل النفط والاعتماد على نفط روسيا وبحر قزوين بدلاً من النفط العربي، وكان ذلك من الأسباب التي حدت بولي العهد الأمير عبد الله بن عبد العزيز فتح حقول النفط مجدداً أمام الاستثمارات الأجنبية بعد ثلاث عقود من إغلاقها بغرض تطوير صناعة استخراج النفط وتحسين مكانة بلاده النفطية على الساحة الدولية عبر تأمين مزيد من القدرة الاحتياطية من جهة، وربط مصالح الشركات النفطية الأمريكية باستقرار السعودية من جهة أخرى.
لكن أزمة الثقة بين الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية كانت تتزايد، إذ رفضت المملكة العربية السعودية السماح للأمريكيين باستخدام أراضيها في الهجوم على أفغانستان بسبب المعارضة الداخلية الشديدة، على الرغم من أنها دعمت قرار مجلس الأمن الدولي الذي اعتبر الحرب الأمريكية على أفغانستان بمثابة دفاع شرعي عن النفس، كما عارضت المملكة العربية السعودية قرار الحرب على العراق، مع أنها سمحت للقوات الأمريكية باستخدام أجوائها في العمليات العسكرية ضده.
وفي حين كانت المملكة العربية السعودية تحاول احتواء الضرر الذي لحق بتحالفها مع الولايات المتحدة الأمريكية، فطرح الأمير عبد الله مبادرة السلام العربية في مؤتمر القمة العربية في بيروت عام 2002م، ليجدد التزام بلاده بخط الاعتدال، حيث لم تلق هذه المبادرة أي اهتمام يذكر من الولايات المتحدة الأمريكية لإنشغالها بالإعداد لغزو العراق.
بالمقابل، كانت إيران من أكبر المستفيدين من هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001م، إذ قامت الولايات المتحدة الأمريكية بالتخلص من ألد خصومها الإقليميين، فقد أطاحت بحكم طالبان في الشرق، وقامت إثر ذلك بغزو العراق وتحطيم آلته العسكرية التي طالما شكلت التهديد الأمني الإقليمي الأبرز لإيران منذ ما قبل سقوط حكم الشاه عام 1979م.
ومن جانب آخر فقد شكل العراق بالنسبة للمملكة العربية السعودية خصوصاً ولدول الخليج العربي عموماً حائط صد أساسي في مواجهة النفوذ الإيراني منذ قيام الجمهورية الإسلامية عام 1979م، إلى أن قامت العراق بغزو الكويت عام 1991م، فقد استضافة المملكة العربية السعودية القوات الامريكية التي قامت بتحرير الكويت، ولذلك ساءت كثيراً العلاقات مع المملكة العربية السعودية، إلا أن المملكة العربية السعودية عارضت المخطط الأمريكي الداعي لإطاحة نظام صدام حسين وتغيير نظام البعث، لأن ذلك يعزز من النفوذ الإيراني وقد يؤدي إلى وقوع العراق بشكل كامل تحت الهيمنة الإيرانية.
عندما وقعت هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001م، أبدت المملكة العربية السعودية بعدم تحمسها لفكرة غزو العراق لأنها كانت مرتاحة بسبب سياسة الاحتواء المزدوج لخصميها في المنطقة، لكن الإدارة الامريكية "المحافظون الجدد" أصرت على استثمار حالة الصدمة الشعبية الناجمة إثر هذه الهجمات لتنفيذ أجندتهم في الشرق الأوسط وعلى رأسها إطاحة نظام صدام حسين.
وكما أسلفنا سابقاً، فإن إيران من أكبر المستفيدين من عملية غزو العراق في المنطقة، مما جعلها تعمل بجد لبناء مقومات قوة إقليمية مستفيدة من الارتفاع الكبير في أسعار النفط ومن التغيرات الحادثة نتيجة التدخل العسكري الأمريكي المباشر في العراق، فقد أدى هذا التدخل إلى تفكيك مؤسسات الدولة العراقية، وحولو العراق من ند لإيران إلى منطقة نفوذ لها، مما جعل إيران الدولة الأكثر نفوذاً وتأثيراً في العراق بالرغم من الوجود العسكري الأمريكي.
تزايدت الدعوات الشعبية الأمريكية بشكل جلي بضرورة الإنسحاب من العراق لما تكبده جيشه من تكاليف وخسائر، وإثر ذلك استسلمت الإدارة الامريكية "إدارة جورج بوش الإبن" للنفوذ الايراني في العراق مما أثار حفيظة المملكة العربية السعودية، وقد عبرو عن سخطهم على السياسة الأمريكية، وأبرز مثال ما جاء خلال مؤتمر القمة العربية لعام 2007م.
ومع مجيء إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى الحكم، أعلنت الإدارة الامريكية عن نيتها لسحب قواتها العسكرية من العراق نهاية 2011م، لكن الربيع العربي جاء مطلع العام 2011م ولم يترك المجال لإيران أن تستكمل مشروعها الإقليمي الذي بدأت به، فصحيح أن الربيع العربي ضرب خصوم إيران –نظاما مبارك والقذافي- لكنه أيضاً ضرب حلفاءها –سوريا وانتقلت بعض آثاره إلى العراق.   
ثانياً: السياسة الخارجية الأمريكية السعودية بعد الربيع العربي.
ظهرت الخلافات الأميركية السعودية على السطح نتيجة اختلاف قراءة الطرفين لمجموعة من القضايا والتطورات الإقليمية، كان أهمها التعامل مع دول ثورات الربيع العربي وآخرها الانفتاح الأميركي على إيران، فقد اعتاد الساسة الامريكيين على التعامل مع نخب سياسية مسيطر عليها في الدول العربية مما أعفاهم من مراقبة ردود أفعال الشارع العربي، ولذلك شكلت ثورات الربيع العربي التي بدأت بتونس وامتدت لتشمل العديد من الدول العربية التحدي الأبرز للإدارة الأمريكية –إدارة الرئيس باراك أوباما_ وأحدثت إرباك واضح في دوائر صنع السياسة الخارجية للولايات المتحدة الامريكية، وما زاد عملية الارباك أن هذه الثورات جاءت في وقت كانت الإدارة الامريكية مهتمة بتحقيق الاستقرار الاقليمي الذي يفسح المجال أمام انسحاب قواتها من المنطقة بيسر، لكنها لم تكن في موقع تستطيع فيه الوقوف إلى جانب قمع تحركات المجتمعات العربية التي جاءت على شكل انتفاضات شعبية سلمية تسعي للحصول على الحرية والكرامة الانسانية، ولذلك قررت الولايات المتحدة الامريكية مجاراة التغيير حتى لا تكرر خطأئها إبان ثورة 1979م الايرانية، عندما تمسكت بالشاه وخسرت ايران، وحتى تتمكن من ضبط مسارات التغيير راحت تنسج علاقات مع القوى الصاعدة ولذلك كان لزاماً عليها التخلي عن القوى الآفلة.
وفي الجانب المقابل كانت المملكة العربية السعودية تقود معسكر مقامة التغيير خلال ثورات الربيع العربي، لذلك كان من الطبيعي أن تتعارض توجهاتها مع توجهات السياسة الأمريكية التي جاءت مسايرة للتغيير، وبناءً على ذلك، نظرت المملكة العربية السعودية بكثير من الشك إلى الموقف الأمريكي من الثورات العربية، ففي الوقت التي رفضت فيه الولايات المتحدة الامريكية دعم التدخل السعودي الخليجي في البحرين عام 2011م لقمع الانتفاضة الشيعية، قامت إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما بالتخلي عن أهم حلفائها في المنطقة وهو الرئيس المصري محمد حسني مبارك، واعتبرت ذلك مؤشراً خطيراً على سلوكها إزاء حلفائها في أوقات الأزمات.
وقد اعتبرت المملكة العربية السعودية الدعم الأمريكي لوصول الإسلاميين للحكم في دول ثورات الربيع العربي أحد أهم نقاط الخلاف الأمريكي السعودي في سياق الثورات العربية عموماً والثورة المصرية على وجه خاص، فقد أبدت الإدارة الأمريكية استعدادها للتعامل مع التيارات الاسلامية المعتدلة، ورحبت بوصول الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم في مصر عن طريق صناديق الاقتراع، إشارة منها للمصالحة التاريخية بين المصالح الامريكية والقيم الديمقراطية موضحه بأنه لا ديمقراطية ممكنة في المنطقة العربية بمعزل عن قوى المعارضة وهي الحركات الاسلامية.
أثارت هذه السياسة قلقاً شديداً لدى المملكة العربية السعودية التي أصبح ينظر لها –بموحب هذه السياسة- أنها من قوى الماضي، فيما ينظر للتيارات الاسلامية التي تولت مناصب الحكم في تركيا ومصر على أنها قوى المستقبل التي يجب التعامل معها.
ومن المفارقات الغريبة التي فرضتها ثورات الربيع العربي على المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية هو تحول المملكة العربية السعودية إلى داعم رئيسي لبقايا التيارات العلمانية الموجودة في المنطقة العربية، أما الولايات المتحدة الامريكية اختارت أن تساير التيارات الصاعدة على حساب الآفلة، فرحبت بوصول التيارات الاسلامية المعتدلة إلى سدة الحكم في دول ثورات الربيع العربي، وأعربت عن استعداداها للتعامل معها.
ففي حالة الثورة المصرية أيدت السعودية الإطاحة بمحمد مرسي واعترفت بالنظام الجديد في مصر، حيث أرسل الملك عبد الله رسالة تهنئة إلى الرئيس المصري عدلي منصور، معتبراً "أن رجال القوات المسحلة أخرجوا مصر من نفق يعلم الله ابعاده وتداعياته"، وجاء ذلك في الوقت الذي جمدت فيه الولايات المتحدة الأمريكية جانب من معونتها لمصر كعقاب بعد الاطاحة بمحمد مرسي.
وانتفالاً للأزمة السورية فقد عبرت المملكة العربية السعودية مرات عديدة عن استيائها من الموقف الأمريكي –الضعيف والمتردد- خلافاً لموقفها من أنظمة كانت تعد حليفة للغرب كتونس ومصر، فقد اعتبرت هذه القضية من القضايا الخلافية التي نتجت من الربيع العربي وسببت توتراً في العلاقات بين الولايات المتحدة الامريكية والمملكة العربية السعودية، فقد أحجمت الولايات المتحدة الامريكية عن اتخاذ خطوات مؤثرة تؤدي إلى رحيل النظام السوري واكتفت بفرض حزمة عقوبات اقتصادية لم يكن لها تأثير على النظام السوري بسبب الدعم الكبير الذي تلقاه هذا النظام من حلفائه وتحديداً من إيران، وبقي الموقف الأمريكي لأكثر من عامين يتراوح بين دعوة الرئيس بشار الأسد للتنحي وبأنه فقد شرعيته وإدانة سياساته في التعاطي مع الأزمة، مع رفضها للتدخل العسكري على غرار ما فعلت في ليبيا، وأيضاً رفضت تسليح المعارضة بحجة التخوف من وقوع هذه الاسلحة في يد جماعات متشددة.
ارتأت المملكة العربية السعودية بأن اسقاط النظام السوري المؤيد لإيران وإنشاء نظام بديل له يكون قريب منها هو من أهم أولوياتها الأمنية، حيث دعت لاستخدام القوة العسكرية لإطاحة النظام السوري إما عبر تسليح المعارضة أو عبر تدخل عسكري إقليمي أو دولي.
لذلك لم يكن مفاجئاً حجم الاستياء السعودي عندما تراجعت إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما عن توجيه ضربة عسكرية للنظام السوري بسبب استخدامه السلاح الكيماوي في غوطتي دمشق في آب/أغسطس 2013م، إذ انتقدت المملكة العربية السعودية بشدة توجه الأمريكيين إلى عقد اتفاق مع روسيا لتسليم الأسلحة الكيماوية السورية وتدميرها، بدلاً من معاقبة النظام على فعلته.
وقد بلغ الاستياء السعودي من الموقف الامريكي بخصوص اتفاق الكيماوي السري حد التهديد بوقف كل أشكال التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، وكبادرة احتجاجية، رفضت السعودية في تشرين الأول/أكتوبر 2013م تسلم عضوية مقعد غير دائم لمدة سنتين في مجلس الأمن الدولي جرى انتخابها لشغله، وتستكمل بهذه الخطوة مساراً عندما قرر وزير خارجيتها الأمير سعود الفيصل إلغاء كلمة بلاده أمام الجمعية العامة، وقد عللت المملكة العربية السعودية قرار رفضها العضوية بعجز مجلس الأمن عن وضع حد فاصل وسريع لمعانة الشعب السوري وحملة الإبادة التي يشنها النظام السوري المؤيد لإيران ضد شعبه مستخدماً كل أنواع الأسلحة التقليدية وغير التقليدية.
ومن جانب آخر، فقد شكلت إيران إلي جانب المملكة العربية السعودية الركن الآخر في الاستراتيجية الأمريكية في منطقة الخليج العربي خلال عقود الحرب الباردة الأولى 1946-1979م، ومنذ أن ساعدت الاستخبارات الأمريكية في إطاحة رئيس الوزراء الإيراني الأسبق محمد مصدق وإعادة الشاه محمد رضى بهلوي إلى الحكم عام 1953م وحتى الثورة الإيرانية عام 1979م، وساهمت الولايات المتحدة الأمريكية في تحويل إيران إلى قوة عسكرية مركزية في الخليج العربي لصد المد الشيوعي من جهة، ولضمان أمن إمدادات الطاقة من جهة أخرى.
دخلت الولايات المتحدة الأمريكية وإيران بحالة من العداء المستحكم خلال فترة العقود الثلاثة الماضية، على الرغم من أن مصالح البلدين تقاطعت في بعض الفترات خاصة خلال عهد الرئيس الأسبق محمد خاتمي، عندما قامت الولايات المتحدة الأمريكية بغزو كل من أفغانستان والعراق، فإن العداء ظل السمة البارزة للعلاقات بين البلدين حتى انتخاب الرئيس حسن روحاني عام 2013م وبدأت رحلة التقارب.
حيث شكل الكشف عن المفاوضات السرية الأمريكية الإيرانية التي بدأت منذ وصول باراك أوباما إلى السلطة مطلع عام 2009م، وتكثيفها منذ أوآخر عام 2011م، صدمة لحلفاء الولايات المتحدة الأمريكية في الخليج العربي وتحديداً للمملكة العربية السعودية، وذلك على الرغم من بدء الحديث عن تقارب أمريكي إيراني منذ انتخاب حسن روحاني في العام 2013م وقد أسفرت هذه المفاوضات عن الإعلان عن التوصل إلى اتفاق مرحلي في جنيف في 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2013م لحل أزمة البرنامج النووي الإيراني والتي استمرت نحو عشر سنوات.
جاء رد فعل المملكة العربية السعودية على الاتفاق النووي مرتبكاً، فرفضته أول الأمر، ثم رحبت به بشرط توافر حسن النوايا، فعادت بعد ذلك وحذرت من الصفقة، مما يوضح بأنها لم تكن تشعر بارتياح تجاه التقارب الأمريكي الإيراني فضلاً عن أنها كانت متفاجئة عن عقد الاتفاق الذي جرى بغير علمها.
من جهة أخرى، اعتبرت المملكة العربية السعودية أن الاتفاق لا يقلص مشاكلها مع إيران ولا يعالج قضايا تعتبر أكثر أهمية بالنسبة إليها، فالموضوع النووي مع أهميته لا يشكل المفصل الوحيد والرئيس في العلاقات بين المملكة العربية السعودية وايران، فهناك موضوع التدخل الايراني في الشئون الداخلية لدول الخليج العربي ومحاولة زعزعة الاستقرار في بعضها، فضلاً عن محاولات بناء قوة إقليمية ايرانية مهيمنة عبر إنشاء قواعد نفوذ وتأثير في سوريا والعراق واليمن ولبنان وغيرها، كما أن تخلي إيران عن برنامجها النووي لا يعني أن التهديد الايراني قد زال، فالتهديد الحقيقي بالنسبة للمملكة العربية السعودية وغيرها من دول الخليج العربي يتمثل في ترسانة الأسلحة التقليدية التي تمتلكها إيران.
ثالثاً: مستقبل العلاقات الامريكية السعودية.
لقد أثرت أحداث الربيع العربي بشكل كبير في رؤية الولايات المتحدة الأمريكية تجاه المنطقة العربية عموماً، بغض النظر عن مدى مسئولية الولايات المتحدة الأمريكية عن بعض نتائجها وإخفافاتها، "ومن الواضح أن الاحساس بالإخفاق والفشل في التعاطي مع تطورات الربيع العربي والدفع بها نحو النتائج المرجوة أدى إلى ردود فعل بلغت في حدها الأقصى المطالبة بتهميش المنطقة العربية بصورة كاملة، وفي حدها الأدني إعادة لتعريف مصالحها"، وفي النهاية تبين للولايات المتحدة الأمريكية أنه لن يكون هناك ربيع في إيران ولا ثورة ولا انتفاضة، وحتى لو حصل ذلك فقد أدركت بأن هذا قد لا يكون بالضرورة لمصلحتها، ووسط هذه الفوضى وحالة عدم اليقين بدأت الولايات المتحدة الامريكية إعادة تعريف لمصالحها في المنطقة والتفكير باستراتيجيات بديلة لحمايتها.
وفي سياق هذا المشهد، برزت حدة التناقضات في رؤية كلاً من الولايات المتحدة الامريكية والمملكة العربية السعودية لما يجري، ففي حين عبر السعوديين عن صعوبة في فهم سبب عدم استغلال الادارة الامريكية الفرصة التي أتاحتها الأزمة السورية لتصحيح الخطأ الذي ارتكبته الولايات المتحدة الأمريكية في العراق وأدى إلي تعزيز نفوذ إيران الاقليمي.
إن العلاقات الأمريكية السعودية التي كانت تقوم بالأساس على مبدأ الأمن مقابل النفط بدأت تتغير بسبب اكتشافات النفط والغاز الصخري في أمريكيا لكنها لن تنتهي، فمن جهة لا توجد أي تقديرات تشير إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تحقق اكتفاء ذاتي كامل من النفوط السائلة حتى عام 2040م، ومن جهة أخرى فإن اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية بنفط الخليج العربي لم يقتصر على تلبية حاجاتها المحلية من الطاقة بل كانت له منافع ذات بعد اقتصادي واستراتيجي.
في النهاية، لا يمكننا أن نفسر ازدياد الاهتمام الأمريكي بمنطقة آسيا والمحيط الهادي انسحاب من منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي، لأن لها مصالح ذات بعد اقتصادي واستراتيجي واضحة بها، ومع كل ذلك لا يبدوا أن الولايات المتحدة الأمريكية تتجه إلى الانسحاب من منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط، بل من الواضح أنها تتجه لإعادة تعريف مصالحها وعلاقاتها من جديد.
الخاتمة:
يمكن القول أن العلاقات الأمريكية السعودية سوف تستمر بتأثير عوامل مرتبطة بالنظام الدولي والاقليمي وميزان القوى الذي تسعي الولايات المتحدة الأمريكية لإعادة بنائه في المنطقة، وعلى الرغم من الاختلاف في قراءة كل طرف مصالحه تجاه القضايا الاقليمية المختلفة إلا أن تداخل المصالح الأمريكية السعودية وتشابكها يفرض على الطرفين الاستمرار في التعاون بشكل وثيق، أما نمط العلاقات القديمة التي حكمت بينهم سوف تتغير وبخاصة مع دخول ايران في منطقة نفوذ التأثير واتجاه الولايات المتحدة الأمريكية إلى تحسين العلاقات معها، "وهذا يدعو المملكة العربية السعودية بأن تنوع علاقاتها وتحالفاتها الاقليمية والدولية من جهة، وتجاوز العقبات التي تحول دون بناء منظمة أمنية وسياسية واقتصادية متكاملة لدول الخليج العربي من جهة أخرى، لأن الركون بشكل مطلق إلي واشنطن أصبح خياراً غير واقعي".
بدأت المملكة العربية السعودية بتأدية دوراً أكثر فاعلية في الدفاع عن مصالحها خلال فترة ثورات الربيع العربي، وأعطت الأولوية المطلقة للمصالح العربية والسعودية، فكانت على مر ستة عقود من التحالف الأمريكي السعودي تعطي المصالح الأمريكية الأولوية دوماً، في حين ظلت المملكة العربية السعودية تكتفي بدور المساير للولايات المتحدة الامريكية حتى لو كان على حساب مصالحها في بعض الأحيان، وبما أن الولايات المتحدة الامريكية تقوم بإعادة تعريف مصالحها وعلاقتها مع المملكة العربية السعودية بما يتوافق مع المستجدات الاقليمية والدولية، يتعين على المملكة العربية السعودية أن تعيد تعريف علاقتها أيضاً بالولايات المتحدة الامريكية، ليس عبر تهديدات مبطنة ليس لها أي مردود وإنما عبر القيام بدور فاعل في رسم مستقبل المنطقة والمشاركة المباشرة في صنع السياسات وخلق الفرص الاقليمية والدولية أو تجييرها لمصلحتها.