الجمعة، 3 أبريل 2015

العدالة الانتقالية

المقدمة:
إن الانتقال إلى الديمقراطية ليس عملية سهلة تتم بالتداعي، ولكنه طريق شاق يحتاج إلى نضال طويل كما يحتاج إلى إصرار وإلا فسوف نجد أنفسنا قد استبدلنا نظاماً استبدادياً بنظام آخر يشبهه بالضبط، فالعدالة الانتقالية طريق لجأت إليه شعوب سبقتنا، فأسهمت في انتقالها من حالة الحرب إلى السلم، أو من القهر والقمع إلى الديمقراطية الحقيقة، وعلينا أن نعي أن العدالة الانتقالية ليست وصفة سحرية سوف تنهي كل مشاكلنا، وإنما هي خريطة طريق علينا أن نمضي فيها، ويبقى النضال والإصرار على الانتقال إلى الديمقراطية هو الضمان الحقيقي.
فإن استلهام خبرات التاريخ يؤكد أن طي صفحة الماضي دون قراءة متمعنة يؤدي إلى الانتقال من استبداد لآخر، وأن تجاهل تركة الماضي وتركها دون علاج جعل الانتهاكات أو المجازر تنتقل من كونها مسئوليات فردية وجماعية إلى مسئوليات يتحمل وزرها الجميع، وبالتالي أدت إلى تأسيس حقب جديدة من الانتهاكات الجسيمة.
فالعدالة الانتقالية تعد موضوعاً جديداً في المنطقة العربية لكنها تقع في صميم التحول والانتقال الديمقراطي، فهي ليست مفتاحاً سحرياً لمعالجة مشاكل الانتقال الديمقراطي ولكنها آلية لمعالجة ماضي انتهاكات حقوق الإنسان ضمن سلسلة من الآليات التي تتبناها الدول للانتقال إلى الديمقراطية، وبالتالي فهي آلية مكملة للعمل المطلوب الذي من المفترض إتمامه على المستوى السياسي وعلى المستوى التشريعي وعلى المستوي الإجرائي في المجتمع الذي يمر بهذه التحولات.
خصائص العدالة الانتقالية:
توجد ثلاث خصائص مهمة تميز العدالة الانتقالية، وهي اعتمادها على مقاربة شمولية ومتكاملة في معالجه إرث الانتهاكات الجسيمة، إذ إنها لا تقف فقط عند حد التقصي في الجرائم وتحديد المسئولين ومعاقبتهم، بل تعمل أيضاً على جبر الضرر ورد الاعتبار للضحايا وإنصافهم، واتخاذ الإجراءات الكفيلة بعدم تكرار الانتهاكات، وإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة، وتعزيز السلم والديمقراطية، كما تتسم العدالة الانتقالية بقدرتها على الإبقاء على التوازن المطلوب لخدمه مختلف الأهداف والمقاصد، حسب خصائص كل مجتمع ومتقضيات الواقع، وفي ضوء موازين القوى القائمة.
وتتميز العدالة الانتقالية باعتمادها على مقاربة تكون الضحية في مركزها ويكون رد الاعتبار لها، وهذا ما يستدعي العمل بأقصى جهد لكي يقوم مسار العدالة الانتقالية الذي تتبناه دولة ما بدعم الضحايا أو انخراطهم ومشاركتهم فيه واستفادتهم من نتائجه.
ومن الجدير بالذكر أن اللجوء إلى العدالة الانتقالية يتم عادة في بلدان عرفت انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وبالتالي فإنها تكون مطالبة بمعالجة ما جرى في فترات من الماضي وبالتوازي مع ذلك يكون عليها مواجهة تحديات في الحاضر مرتبطة بإرساء الاستقرار والأمن وتحقيق الديمقراطية ودولة القانون، ونظراً لهشاشة الأوضاع الداخلية التي تتسم بها المراحل الانتقالية وكذلك تواجد مختلف القوى بشكل متوازن بما فيها القوى المحافظة، فإن الأمر يستدعي تحديد الأولويات حسب سياق كل بلد وكل مرحلة، فكل تجربة لها خصائصها وأولوياتها وضغوطها.
ويمكننا أن نحقق الانتقال الديمقراطي مع معالجة إرث الماضي وضغوط الحاضر مع ضمان للسلم والأمن والتوجه نحو المستقبل من خلال إصلاح مؤسسات الدولة وتشريعاتها وبناء الديمقراطية وتحقيق التنمية وضمان سيادة القانون، فإن اللجوء إلى هذه المقاربة كآلية يستلزم أولاً –وقبل كل شيء– توفر إرادة سياسية صريحة لدى الدولة، وحد أدنى من التوافق بين أبرز الفرقاء السياسيين داخل البلد، وإشراك المجتمع المدني والإعلام وممثلي الضحايا وأسرهم في هذه العملية، وهنا تتدخل بطبيعة الحال الأهداف المتوخاة من هذه الديناميكية.
الأركان المكونة للعدالة الانتقالية:
لقد أفرزت التجارب الدولية في مجال العدالة الانتقالية أركاناً ارتكزت على القانون الدولي لحقوق الإنسان والمعايير التي تبلورت في معالجة الانتهاكات وتعقيد أسسها ومكوناتها.
وتوجد خمسة مكونات أساسية تتألف منها آلية العدالة الانتقالية وهي: المحاسبة والكشف عن الحقيقة وجبر الضرر وإصلاح المؤسسات والمصالحة، ولا يشكل ترتيب هذه الأركان الأولوية لمكون عن الآخر بل هو ضرورة منهجية، فالمفروض أن تأخذ مقاربة العدالة الانتقالية هذه المكونات كاملة، ونتناول فيما يلي كل مكون من هذه المكونات بشئ من التفصيل.
فتعد المحاسبة عن انتهاكات حقوق الإنسان واتخاذ الإجراءات الجزائية في حق مرتكبيها مسئولية الدولة، وذلك طبقاً لمقتضيات القانون الدولي والالتزامات التي أخذتها كل دولة على عاتقها من خلال انضمامها إلى عدد من الاتفاقيات والمعاهدات والمواثيق التي صادقت عليها، إلا أن التجارب الدولية توضح أن هذا الإلزام يبقى معتمداً بشكل أو بآخر على توافر الإرادة السياسية والأولويات المحددة في سياق البناء الديمقراطي ومدى توفر المؤهلات اللازمة لاضطلاع القضاء بدوره كاملاً وبتجرد، وهذا يفسر الاختلاف والتباين في أولويات الدول في عدة تجارب دولية، منها تشيلي واسبانيا والمغرب ويوغسلافيا.
إن تطبيق مبدأ المحاسبة يأخذ في الاعتبار دون شك التقدير السياسي لوضعية البلد والأهداف المتوخاة في كل مرحلة، لكن دون أن يعني ذلك تخلي الدولة عن التزاماتها في هذا المجال، وقد عبر "ألكس بورين"[1] عن ذلك بقوله: "إن كل المحاولات الدولية لتحقيق العدالة تعكس تسويات سياسية جد واقعية، وجلنا يعلم أن استحداث المحاكم لا يعدو أن يكون مجرد بديل باهت للعمل الوقائي، وأن متابعة بعض مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان دون معظمهم يشكل ببساطة مظهراً من مظاهر السياسة الواقعية، وبصيغة أخرى، لا شك أن للقانون حدوداً إذ كلما جرت انتهاكات لحقوق الإنسان على نطاق واسع –كما هو الحال في يوغسلافيا سابقاً أو في رواندا أو سيراليون– كان من المستحيل متابعة الجميع، فبينما يمنح القانون الجنائي الدولي قدراً من المؤاخذة في مواجهة جرائم فظيعة، هناك حدود لما يمكن أن نحققه"، ولذلك فالمحاسبة الجنائية تبقى خياراً له دواعيه وأهدافه في مسلسل معالجة ماضي الانتهاكات وتتمثل أساساً في المساهمة في الردع عن ارتكاب انتهاكات جديدة، والتعبير عن الإدانة الرسمية للجرائم وتعكس انخراط الدولة في بناء مقومات احترام القانون وبناء الثقة في سياسة الدولة ومؤسساتها.
ويلاحظ وجود العديد من التحديات التي تحول من التفعيل الكامل لهذه المتابعات مثل طول أجل التقاضي في بعض الأحيان فضلاً عن تكاليفه ومستلزماته من حيث البراهين والشهود، واستمرار القضاة القدامى في مواقعهم ودرجة انخراطهم في دينامية الانتقال مع ضمان المحاكمة العادلة، كما أن كثرة المسئولين عن السياسة السابقة –سواء على مستوى وضع الخطط أو تنفيذها– يجعل المحاسبة تتسم بنوع من الانتقائية وهشاشة مرحلة بناء السلم والانتقال الديمقراطي الناشئ، وبالرغم من هذه التحديات إلا أن هذا لا يعني إلغاء المتابعات من جدول الأعمال، بل ينبغي إدراجها ضمن استراتيجية التأهيل والإصلاح المؤسساتي للانتقال بما يكفل تحقيق العدل.
أما المكون الثاني من مكونات العدالة الانتقالية فهو الكشف عن الحقيقة، فغالباً ما يبرز خلال المراحل الانتقالية الحاجة إلى فهم ما جرى وسببه خاصة وأن التعتيم الممارس من قبل أنظمة الاستبداد والقمع يجعل فظاعات حقوق الإنسان وانتهاكاتها المرتكبة غير معروفة من حيث أبعادها ومكوناتها وحجمها ومجالاتها.
وعلينا أن نعي أن الحقيقة ليست مطلقة، وأن لها أشكال عديدة فهناك مكونات متعددة لها، من أبرزها الحقيقة الجنائية، التي تعرض على القضاء بكل ما تستوجبه من حجج وأدلة وشهود ومرتكز قانوني ويوجد السرد الفردي الذي يعكس حقيقة المعاناة الفردية في خضم انتهاكات حقوق الإنسان وتوفر لنا أدبيات وشهادات وأفلام وثائقية هذا البعد بكل ما يعكسه من آلام وفظاعات ومعاناة إنسانية، وكذلك توجد الحقيقة السياسية، وتمثل مقاربة الفاعلين السياسيين لماض محدد زماناً ومكاناً وأدوار مختلف الهيئات والمؤسسات الحزبية والدولية، وهناك الحقيقة التاريخية.
وتسعى العدالة الانتقالية إلى الكشف عن الحقيقة بجمعها –قدر المستطاع– بين هذه المكونات من خلال التقصي والإنصات للضحايا وذويهم، وتمكين المجتمع من معرفة ما جرى عبر توفير إمكانيات التعبير لكل الفرقاء من خلال الإبداع والكتابة والإعلام والصحافة وجلسات الاستماع وغيرها، ومن الآليات غير القضائية التي برزت بشكل لافت خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي لجان الحقيقة، وقد بدأ استخدام هذه الآلية في أمريكيا الجنوبية ثم انتشرت في العديد من أرجاء العالم، حيث تم تشكيل أكثر من ثلاثين هيئة للكشف عن الحقيقة حققت درجات متفاوتة من النجاح، وتتسم هذه اللجان بمجموعة من الخصائص التي يجب أن تتوفر فيها، حيث يجب أن تكون هيئة للتقصي، وأن يتم تشكيلها بشكل رسمي من قبل الدولة، وأن تتمتع بنوع من الاستقلالية عن الدولة، وتكون لها سلطة محددة بموجب القانون المنشئ لها، وأن تعمل في إطار نطاق زمني محدد، كما تتسم بكونها هيئات غير قضائية، وأن ينصب عملها على أحداث الماضي كذلك يجب أن تنحصر ولاية هذه اللجان في تقصي انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان أو القانون الدولي الإنساني، ويحدد القانون المنشئ لها الانتهاكات التي سيشملها عملها والمدة الزمنية المغطاة ويفترض من هذه اللجان إعطاء الأولوية للضحايا ومعاناتهم، وأخيراً تنهي عملها بتقرير وتوصيات.
لقد استطاعت آلية لجان الحقيقة أن تساعد على دعم مسلسل التحول الديمقراطي في العديد من التجارب من خلال معالجة شاملة للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، مع التأكيد على أنها لا تقف عند حد المحاكمات، بل تتسع إلى معرفة حقيقة ما جرى وخلق دينامية للحوار والنقاش العمومي بشأنه بمشاركة الضحايا ومختلف الأطراف السياسية والمدنية والنقابية، إضافة إلى العاملين في مؤسسات الدولة وغيرهم، وفي خضم هذا المسار تبلورت آليات لدعم ذلك اكتسبت أهمية بالغة كان أبرزها جلسات الاستماع العمومية التي تقدم فيها الشهادات حول ما جرى والتي عرفتها بعض التجارب مثل بيرو وجنوب افريقيا والمغرب، وقد أعطت بعض اللجان صلاحيات خاصة مثل العفو "المشروط" الذي كان بيد لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب افريقيا، أو تحديد تعويضات وإعطائها كما في هيئة الإنصاف والمصالحة كما حدث في المغرب.
أما مفهوم جبر الضرر اتسع ليوضح بأنه أكبر من كونه تعويضاً مادياً للضحايا بل يمتد ليصبح بمثابة إقرار بمسئولية الدولة عن انتهاكات حقوق الإنسان وبوجوب جبر الأضرار المترتبة عن ذلك وفقاً لمقتضيات القانون الدولي، كما أن ذلك جزء من رد الاعتبار يأخذ في الحسبان انعكاسات ما تعرض له الضحايا وأوضاعهم المهنية والمالية وممتلكاتهم وانعكاسات ذلك على أسرهم، وقد تمت بلورة مجموعة من المعايير الدولية خلال عقود تراكمت فيها النظريات والآليات ذات الصلة بمفهوم جبر الضرر، والتي كان من أبرزها مساهمات عدد من الخبراء، كالهولندي "تبوفان بوفن" والفرنسي "جواييى" والمصري "شريف بسيوني" وغيرهم كثر، كما أغنت التجارب الدولية من خلال عمل لجان الحقيقة ذلك عبر برامج تنوعت أشكالها وتدابيرها، ويأخذ جبر الضرر عدة أبعاد مثل، جبر الضرر الفردي الذي يواجه الضحايا وأسرهم ويشمل التعويض والعلاج وإعادة الإدماج والرعاية الصحية، كما يوجد جبر الضرر الجماعي الذي يختص بجماعات ومناطق قد تكون عاشت أوضاعهم خاصة من حيث سياسات القمع أو الإبادة أو التهميش الشامل جراء مواقف سياسية أو مساندة طرف سياسي، وأخيراً جبر الضرر القائم على مقاربة النوع ويهدف إلى معالجة الوضعية الخاصة للنساء ضحايا الانتهاكات، وإذا كان البعد الأول قد عرف تطوراً  ملموساً من حيث التعقيد والبلورة، فإن الجانبين الآخرين لا زالا في طور الإثراء من حيث الأسس النظرية والتجارب الدولية، رغم التقدم المحرز في هذا الشأن.
أما المكون الرابع وهو إصلاح المؤسسات، فهو مرحلة أساسياً من مراحل الانتقال الديمقراطي، حيث تكون للحروب والحروب الأهلية وللأنظمة الاستبدادية انعكاسات مدمرة على مؤسسات الدولة والعاملين بها، ويتم توجيه الجميع لخدمة سياسة ممنهجة للقمع والإخضاع، وعادة ما يؤدي ذلك إلى خرق للقانون وتوظيفه وعدم الخضوع للرقابة والعمل بالتعليمات والتجاوزات والارتشاء وغيره، وهذا ما يستدعي الإصلاح المؤسساتي بوصفه أحد المداخل الأساسية لضمان عدم تكرار ما جرى من انتهاكات، وتوفير الضمانات الدستورية والقانونية للحماية من ذلك ويشمل هذا الإصلاح عدة مجالات من أبرزها الإصلاح الدستوري، ومراجعة القوانين وضمان استقلال القضاء والنهوض به وإخضاع مؤسسات الأمن للرقابة وتوفير شروط الحكامة الجيدة –الرشيدة- على قاعدة من الشفافية والمساءلة وتدريب موظفي الدولة العاملين في القضاء والأمن والجيش والإعلام، وعادة ما يتم تحديد أولويات الإصلاح المؤسساتي من خلال تقرير لجنة الحقيقة الذي يرصد واقع الانتهاكات والمؤسسات المسئولة عنها بالدرجة الأولى ومواطن الخلل في التشريعات التي سمحت بذلك.
وقد أوضحت التقارير الصادرة عن هذه اللجان أولوية إصلاح المؤسسات الأمنية نظراً لأدوارها في مراحل الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وفي هذا الإطار لاشك أن معالجة الموضوع تكون بدورها مرتبطة بخصائص كل تجربة وسياقها وانعكاسات الإجراءات المتخذة على الانتقال الديمقراطي وضمان استمراريته، وتبرز التجارب الدولية لاختلاف وتباين بين الدول بشأن معالجة مسألة إصلاح المؤسسات الأمنية وتداعياتها حسب سياق كل بلد.
أما المكون الخامس من مكونات العدالة الانتقالية هو المصالحة، والمصالحة لا تعني –كما قد يتبادر إلى الذهن– عموماً طمس الحقيقة وطي الصفحة دون قراءتها بل إنها تعد هدفاً يتم تحقيقه من خلال إنجاز باقي المكونات المشار إليها من معرفة للحقيقة والنقاش العمومي وإصلاح المؤسسات وجبر الضرر وما إلى ذلك، فالمصالحة لا تعني النسيان لأنه لابد من الحفاظ على الذاكرة بما يمكن الشعوب من استخلاص الدروس لكي لا يتكرر ما جرى، ولاشك أن مسلسل بناء المصالحة له مداخل كثيرة منها، السياسي والقانوني وإحداث آليات للحوار وبناء الأرضية المشتركة بين الفرقاء وإرساء مرتكزات مشروع مجتمعي مشترك يستوجب الدفاع عنه من قبل المجتمع.
إن المصالحة من وجهة نظر العدالة الانتقالية مسلسل ووسيلة وهدف، يتم بناؤها بالتدرج في أفق واسع يحتضنه المجتمع بكافة مكوناته ويبني الثقة ويبعث الأمل والاطمئنان لدى المواطن.
لقد ركز "أيلوين"[2] على ما اعتبره حداً أدنى لإنجاح المصالحة حين قدم له التقرير النهائي للجنة الحقيقة على هذا النحو: "إن المشكلة العويصة لانتهاكات حقوق الإنسان والجرائم البشعة الأخرى التي أودت بحياة العديد من الضحايا وتسببت في الكثير من الآلام في الماضي ما زالت قائمة، إنها جرح مفتوح في روحنا الوطنية لا يمكن أن نتجاهله، كما لا يمكن التئامه بالنسيان فقط، أن نغمض أعيننا وندعي أن كل ذلك لم يحدث أبداً يعني أن نترك في صميم مجتمعنا مصدراً  للألم والفتنة والكراهية والعنف، لا يمكن لأي شيء غير الكشف عن الحقيقة والسعي وراء الإنصاف، أن يخلق الأجواء المعنوية التي يمكن للمصالحة والسلم الازدهار في كفنها".
إننا بهذا المعنى نكون أمام مسلسل يتم بناؤه بمشاركة كافة الفرقاء وإرساء قواعده بعمل دؤوب وإرادة سياسية قوية لتجاوز مخلفات الماضي وبناء الحاضر مع استحضار متطلبات ذلك وإعمال باقي المكونات الأخرى المشكلة للعدالة الانتقالية.
فعلى الرغم من خصوصية كل حالة إلا أن المقاربة الشمولية للعدالة الانتقالية تمنح فرصة فعلية لتحقيق قدر من المحاسبة والحقيقة والمصالحة والالتئام وقدر من التحول وبعض التعويضات لصالح الضحايا ولبلوغ هذه الغاية المتواضعة لابد من الالتزام والحكمة والرأفة وذلك أضعف الإيمان إزاء من يطالبون بالاستماع إليهم، إنهم يطلبون أن يبنى عالماً حيث يموت الناس على سريرهم وهم مطمئنون حين يقضي أجلهم محاطين بأصدقاء الأمس وجيران الغد.
العدالة الانتقالية ومعايير الأمم المتحدة:
لزاماً أن نقوم بتوضيح الفارق الجوهري بين مفهومي "العفو" أو "الصفح" من جانب و"طمس الحقائق" من جانب آخر، فهذه مسألة أساسية، إذ ليس هناك امكانية للحديث عن العدالة دون أن تكون الحقيقة ركناً أساسياً في مسألة الانتقال، ولاسيما في مجتمعاتنا التي عانت من كل أشكال تكميم الأفواه وتقييد حرية الرأي والتعبير، وكذلك فإن الاعتراف بالانتهاك الذي تعرض له الضحية ومساءلة من ارتكبه هو أمر أساسي فلا حديث عن عدالة دون تقويض فرصة الجاني في الإفلات من العقاب وإدانته، ويقع العفو في المساحة ما بين الإدانة والعقاب، ومن ثم لا حديث عن عفو دون أن تثبت الإدانة، فكيف نعفو عن مذنب مجهول الهوية، فهذا المعنى من العفو يكون طمساً لما عاناه الضحايا من الأنظمة الاستبدادية، وكذلك تعنى العدالة الانتقالية بإعادة إقامة القواعد التي تحكم العيش المشترك في المجتمع وتحديدها والعلاقة بين المواطن والمؤسسات، أو بمعنى آخر، أن تؤسس لقواعد جديدة يكون على المؤسسات والمجتمع والأفراد احترامها.
ولا يقتصر مبدأ جبر الضرر فقط على الضحايا، وإنما يمتد ليشمل المسائل الاقتصادية والاجتماعية، وفيما يخص الأمم المتحدة نعرف أن العدالة الانتقالية تتمثل في مسألتين، مسألة الانتقال من الأنظمة التسلطية والاستبدادية إلى الديمقراطية الناشئة، والانتقال من حالات النزاع والحروب الأهلية إلى السلم، ومن هنا جاء دور المصالحة كمسألة جوهرية، ولكن المصالحة مع من، وما هي أسسها، فالعدالة تتأثر بالظروف السياسية التي تنشأ فيها بشكل أو بآخر، ففي اليمن –على سبيل المثال– اقتصر تعريف العدالة على المصالحة دون المساءلة.
ومن هنا فإن نهج الأمم المتحدة بالنسبة للعدالة الانتقالية هو امتداد للقواعد والمعايير الدولية وخاصة القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، وتلك المنظومة القانونية أقرت مبدأ عدم الإفلات من العقاب لا سيما ما يخص الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
ومن المعروف أن الأمم المتحدة لا تدعم مبدئياً أي اتفاق فيما يخص غياب العدالة الانتقالية بالنسبة للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، ويميل نهج الأمم المتحدة إلى مراعاة الصالح السياسي وربط السلم الاجتماعي بتحقيق العدالة الانتقالية في المساءلة فضلاً عن ضمان حقوق المرأة، ويركز أيضاً نهج الأمم المتحدة بشأن العدالة الانتقالية على المكانة المركزية للضحايا فغالباً ما يغيب عن المجتمع وأثناء فترات الانتقال أن إعادة الحق إلى الضحايا هو أول مطالب العدالة وهو أمر أساسي، لأن إقرار السلم يستدعي السلام الجماعي.
وأخيراً يجدر التنويه إلى أن العدالة الانتقالية هي مسألة تختلف تماماً عن العدالة الانتقائية، وخاصة في سياق تأسيس آليات جديدة لمؤسسات الدولة وإصلاح المؤسسات القائمة، وهي مسألة ترتبط بآليات العدالة الانتقالية ارتباطاً وثيقاً.




[1] نائب رئيس لجنة الحقيقة والمصالحة بجنوب إفريقيا، والرئيس المؤسس للمركز الدولي للعدالة الانتقالية.
[2] الرئيس الشيلي.