المقدمة:
شهدت العلاقات
الأمريكية السعودية على امتداد العقود الستة الماضية حالات تقارب وتباعد وفقاً رؤية الطرفين لمصالحهما القومية، اعتماداً على الظروف السائدة في البيئتين الإقليمية والدولية.
وبخلاف الاعتقاد الشائع، لم تكن العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة
العربية السعودية في حالة وئام
دائم، بل شهدت حالات من التوتر
والتوتر الشديد في بعض
الأوقات، كان من أبرزها هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001م، والثورة المصرية في 25 يناير
2011م، والأزمة السورية، والاتفاق المرحلي بشأن الملف النووي الايراني، وعلى الرغم من الهزات التي تعرضت لها العلاقات الأمريكية السعودية، فإنها ظلت
متماسكة.
وفي السنوات
الأخيرة، ظهرت الخلافات الأميركية السعودية على السطح مجدداً نتيجة اختلاف قراءة الطرفين لمجموعة من القضايا والتطورات الإقليمية، كان أهمها
التعامل مع دول ثورات الربيع العربي وآخرها الانفتاح الأميركي على إيران بعد وصول الرئيس حسن روحاني إلى سدة الحكم فيها والتوقيع
على اتفاق جنيف المرحلي بشأن الملف النووي الإيراني، وعلى الرغم من أن بعضهم قد ذهب إلى التأكيد على أن بنية النظامين الإقليمي والدولي لم تعد تسمح باستمرار التحالف الأمريكي السعودي، فإن
القراءة الأكثر واقعية، هي أن إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما تتبع مقاربة جديدة تحاول من خلالها إدماج إيران في المنطقة بعد أن أنهكتها العقوبات، ثم تقوم بتوظيف العلاقة الجديدة معها لخدمة مصالحها في المنطقة، ولكن من دون التفريط بعلاقاتها مع السعودية وبقية دول الخليج العربي.
كما أن استقرار منطقة الخليج العربي سيبقى على رأس أولويات واهتمامات
الولايات المتحدة الأمريكية في المدى المنظور، وذلك لأسباب اقتصادية
واستراتيجية مرتبطة بمنطقة
الخليج العربي وببنية النظام الإقليمي والدولي، والعلاقات بين القوى الكبرى أيضاً، فسوف
يبقى النفط العربي هو الشريان الحيوي للاقتصاد العالمي لنحو عقدين آخرين من الزمن على الأقل، على الرغم من اكتشافات النفط والغاز الصخري في الولايات المتحدة الأمريكية.
ومن جانب آخر، لا يمكننا الاستنتاج بأن تنامي اهتمام الولايات
المتحدة الامريكية بمنطقة آسيا والمحيط الهادي يعد بمنزلة انسحاب من منطقة الشرق الأوسط والخليج
العربي، ولكن يعد على العكس تماماً، فهذا سوف يستدعي ازدياد اهتمام الولايات المتحدة الامريكية بمنطقة الشرق الأوسط بالضرورة، وتمسك الولايات المتحدة
الامريكية بحماية مصالحها في المنطقة العربية، ولكن بوسائل ومقاربات مختلفة عما كانت بالسابق.
فتنبع المشكلة البحثية لهذه
الورقة من مفاد أنه يوجد علاقات بين الولايات المتحدة الامريكية والمملكة العربية
السعودية تباعدت وتقاربت حسب المتغيرات الاقليمية والدولية ومصالح كل طرف في هذه
المتغيرات، ويكون التساؤل الرئيس لهذه الورقة هو، هل أثرت ثورات الربيع العربي
على السياسة الخارجية الامريكية والسعودية؟ وما هي مظاهر هذا التأثر؟
فستبرز أهمية هذه الورقة فى حيوية وحساسية الموضوع
خصوصاً عندما يطرح في الفترة الراهنة، والتي شهدت أحداثاً وتغيرات إقليمية ودولية،
وأيضاً لرغبة الباحث في التطرق لمثل هذه الموضوعات والتي تمس واقعنا العربى
المعاصر ويخدم قضايانا والتي نسعى من خلال البحث العلمى للارتقاء بها إلى الأفضل
ولا يتأتى لنا ذلك إلا بتضافر الجهود والطاقات والتي يكون للبحث العلمى فيها دور
كبير.
وتهدف هذه الورقة إلى التعرف على:
1)
التطور
التاريخي للسياسة الخارجية الأمريكية السعودية.
2)
أثر ثورات
الربيع العربي على السياسة الخارجية الأمريكية السعودية.
3)
مستقبل
العلاقات الأمريكية السعودية.
اعتمد
الباحث على المنهجين التاليين:
1) منهج تحليل النظام الإقليمى:
الذى يعد نمط منتظم من التفاعلات بين عدد من الوحدات السياسية داخل إقليم معين، إذ
يعد النظام الإقليمى بأنه مستوى تحليلى وسط بين تحليل النظام العالمي وتحليل
السياسة الخارجية للدول، وهو بهذا المعنى أخذ يكتسب أهمية كبيرة كمنهجية تحليلية
نتيجة العديد من التطورات السياسية، وإضافة إلى تطورات أخرى فى نظرية العلاقات
الدولية وظهور مدارس فكرية لها رؤى واجتهادات نقدية لمقولات "مدرسة
القوة" أو ما يعرف بـ "مدرسة النظام الدولي" التى ركزت على الدول،
بوصفها وحدة التحليل الأساسية، وعلى القوة واستخداماتها فى العلاقات الدولية.
فقد أشارات تلك المدارس الفكرية الجديدة
إلى فواعل أخرى في النظام العالمي لا تقل أهمية عن الدول القومية، وإلى ظواهر أخرى
أخذت تكتسب أهمية كبيرة نتيجة استخدام القوة مثل الاعتماد الاقتصادى المتبادل
والتكامل. إن دراسة العلاقات الأمريكية السعودية تعتبر من الظواهر المثيرة للجدل
لأسباب متعددة، وسوف نحاول الاقتراب من هذه العلاقة من خلال منهج تحليل النظام
الإقليمى، لمعرفة كيف بدأت وأسباب هذه العلاقات، والعوامل التى قد تؤدي إلى
إضعافه، كما سيمتد تحليلنا لرؤية مستقبلية نستطيع من خلالها معرفة إلى أين تتجه
هذه العلاقة تحديداً، وما مدى صلابتها فى مواجهة عوامل الضغط المحيطة بها.
2) المنهج التاريخى: وذلك من منطلق
أن الظاهرة السياسية شأنها شأن الظواهر الاجتماعية الأخرى، هي تراكم لمجموعة من
العوامل التى حدث بينها تفاعل مع مرور الزمن ومعالم السياسة هنا يستطيع أن يجعل
التاريخ إطاراً لمعرفة الماضى والسياسة أكثر ارتباطا بالتاريخ من أى علم آخر، كما
أن التاريخ يوصف بأنه علم السياسة الجارية، ولذلك ومن خلال استخدام هذا المنهج سوف
نستطيع الحصول على كثير من الوثائق والمعلومات التى ستساعدنا فى التوصل إلى حقيقة
تأثير العلاقات بين كل من الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية
بثورات الربيع العربي.
وقد قسمت هذه
الورقة إلى:
أولاً: التطور
التاريخي للسياسة الخارجية الأمريكية السعودية.
ثانياً: السياسة
الخارجية الأمريكية السعودية بعد الربيع العربي.
ثالثاً: مستقبل
العلاقات الامريكية السعودية.
أولاً: التطور التاريخي للسياسة الخارجية الأمريكية السعودية.
نشأت وتطورت العلاقات الأمريكية السعودية منذ العقود الستة الماضية، حيث كان يشوبها حالات من المد والجزر وفقاً لرؤية الطرفين لمصالحهما القومية، وذلك وفقاً للظروف السائدة في البيئتين الإقليمية والدولية.
فامتدت العلاقات الأمريكية السعودية لأكثر من ستة عقود من الزمان، حيث قامت
هذه العلاقات في البداية على مبدأ "الأمن مقابل النفط"، وبحسب هذا
التفاهم تعهدت الولايات المتحدة الامريكية بضمان أمن المملكة العربية السعودية في
مواجهة أي أخطار داخلية أو خارجية مقابل التزام الرياض بتأمين إمدادات نفط رخيصة
للولايات المتحدة الأمريكية.
واعتبر هذا الاتفاق أحد الركائز التي قامت عليها سياسة الولايات المتحدة
الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط طوال سنوات الحرب الباردة، فكانت المملكة العربية
السعودية تعمل على تأمين إمدادات نفط رخيصة للاقتصاد الأمريكي والعالمي، ومنع
التغلغل الشيوعي في منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط، ولكنها لم تنسجم مع حماية
أمن اسرائيل، ولذلك كانت صيغة هذا التفاهم مهددة بالانهيار في أي لحظة، وعلى الرغم
من تنامي شكوك السعوديين في قدرة الولايات المتحدة الامريكية على الالتزام
بتعهداتها فيما يتعلق بتوفير الأمن لهم إلا أنها ظلت تؤدي دور الضامن لإمدادات
الطاقة للولايات المتحدة الأمريكية طوال العقود الثلاثة الأخيرة.
أما الوجه الآخر للعلاقات الأمريكية السعودية خلال فترة الحرب الباردة
تمثلت في رؤية الطرفين المشتركة للخطر الشيوعي ممثلاً بالاتحاد السوفيتي وتعاونهما
لمواجهته ومواجهة أخطاره، ففي فترة الخمسينات والستينات وجدت الولايات المتحدة
الأمريكية نفسها في تحالف مع القوى الاسلامية والأنظمة المحافظة في منطقة الشرق
الأوسط وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، فقد كان الإسلاميون في عداء مع أفكار
الإلحاد، فيما كانت الأنظمة المحافظة تعتبر التيارات والقوى اليسارية الحليفة
لموسكو تهديداً خطيراً لوجودها واستمرارها.
ومنذ مطلع السبعينات، ومع تنامي مشاعر العداء في الداخل الأمريكي للتدخلات
العسكرية المباشرة بسبب الحرب على فيتنام، اتجهت الولايات المتحدة الامريكية
لتعزيز قوة حلفائها الإقليميين، وبذلك أصبحت المملكة العربية السعودية الركن الآخر
في استراتيجية الولايات المتحدة الامريكية في منطقة الخليج العربي إلي جانب ايران،
وقد ازداد هذا التحالف بعدما جاءت الثورة الاسلامية في ايران لتزيد من أهمية
المملكة العربية السعودية في حسابات الولايات المتحدة الأمريكية، "وتحولها
إلى ما اعتبره الرئيس الأمريكي جيمي كارتر الحليف الأهم للولايات المتحدة
الأمريكية في الساحة الدولية".
جددت الولايات المتحدة الأمريكية التزامها بحماية مصالحها في الخليح العربي
ومنع أي قوة إقليمية أو دولية من السيطرة على هذه المنطقة الاستراتيجية، وبرز ذلك
عندما دخلت في مواجهة عسكرية لإخراج العراق من الكويت عام 1991م، ثم نجحت في تحجيم
قدرات العراق وإيران معاً من خلال فرض "سياسة الاحتواء المزدوح"، حيث
اعتبرت المملكة العربية السعودية كل ذلك بأنه تأكيد على التزام الولايات المتحدة
الامريكية بمبدأ الأمن مقابل النفط.
وقد ألقت أحداث الحادي عشر من سبتمبر للعام 2001م ظلالاً ثقيلة من الشك على
العلاقات الأمريكية السعودية وتزايد التوتر مع صدور دعوات من الغرب لتغيير أنظمة،
وإعادة رسم خرائط، وبناء تحالفات جديدة والتخلي عن تحالفات أخرى قديمة، وقد رافق
ذلك كله غموض متعمد في السياسة الأمريكية تجاه المملكة العربية السعودية تجسد في
عدم التعليق على هذه الدعوات.
وكل هذا وما تبعها من تطورات، بدأت المملكة العربية السعودية تشعر بحجم
الضعوط الممارسة عليها، وبخاصة بعد أن راحت دوائر غربية تدعو إلي إنهاء العمل
بصيغة الأمن مقابل النفط والاعتماد على نفط روسيا وبحر قزوين بدلاً من النفط
العربي، وكان ذلك من الأسباب التي حدت بولي العهد الأمير عبد الله بن عبد العزيز
فتح حقول النفط مجدداً أمام الاستثمارات الأجنبية بعد ثلاث عقود من إغلاقها بغرض
تطوير صناعة استخراج النفط وتحسين مكانة بلاده النفطية على الساحة الدولية عبر
تأمين مزيد من القدرة الاحتياطية من جهة، وربط مصالح الشركات النفطية الأمريكية
باستقرار السعودية من جهة أخرى.
لكن أزمة الثقة بين الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية
كانت تتزايد، إذ رفضت المملكة العربية السعودية السماح للأمريكيين باستخدام
أراضيها في الهجوم على أفغانستان بسبب المعارضة الداخلية الشديدة، على الرغم من
أنها دعمت قرار مجلس الأمن الدولي الذي اعتبر الحرب الأمريكية على أفغانستان
بمثابة دفاع شرعي عن النفس، كما عارضت المملكة العربية السعودية قرار الحرب على
العراق، مع أنها سمحت للقوات الأمريكية باستخدام أجوائها في العمليات العسكرية
ضده.
وفي حين كانت المملكة العربية السعودية تحاول احتواء الضرر الذي لحق
بتحالفها مع الولايات المتحدة الأمريكية، فطرح الأمير عبد الله مبادرة السلام
العربية في مؤتمر القمة العربية في بيروت عام 2002م، ليجدد التزام بلاده بخط
الاعتدال، حيث لم تلق هذه المبادرة أي اهتمام يذكر من الولايات المتحدة الأمريكية
لإنشغالها بالإعداد لغزو العراق.
بالمقابل، كانت إيران من أكبر المستفيدين من هجمات الحادي عشر من سبتمبر
2001م، إذ قامت الولايات المتحدة الأمريكية بالتخلص من ألد خصومها الإقليميين، فقد
أطاحت بحكم طالبان في الشرق، وقامت إثر ذلك بغزو العراق وتحطيم آلته العسكرية التي
طالما شكلت التهديد الأمني الإقليمي الأبرز لإيران منذ ما قبل سقوط حكم الشاه عام
1979م.
ومن جانب آخر فقد شكل العراق بالنسبة للمملكة العربية السعودية خصوصاً
ولدول الخليج العربي عموماً حائط صد أساسي في مواجهة النفوذ الإيراني منذ قيام
الجمهورية الإسلامية عام 1979م، إلى أن قامت العراق بغزو الكويت عام 1991م، فقد
استضافة المملكة العربية السعودية القوات الامريكية التي قامت بتحرير الكويت،
ولذلك ساءت كثيراً العلاقات مع المملكة العربية السعودية، إلا أن المملكة العربية
السعودية عارضت المخطط الأمريكي الداعي لإطاحة نظام صدام حسين وتغيير نظام البعث،
لأن ذلك يعزز من النفوذ الإيراني وقد يؤدي إلى وقوع العراق بشكل كامل تحت الهيمنة
الإيرانية.
عندما وقعت هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001م، أبدت المملكة العربية
السعودية بعدم تحمسها لفكرة غزو العراق لأنها كانت مرتاحة بسبب سياسة الاحتواء
المزدوج لخصميها في المنطقة، لكن الإدارة الامريكية "المحافظون الجدد" أصرت
على استثمار حالة الصدمة الشعبية الناجمة إثر هذه الهجمات لتنفيذ أجندتهم في الشرق
الأوسط وعلى رأسها إطاحة نظام صدام حسين.
وكما أسلفنا سابقاً، فإن إيران من أكبر المستفيدين من عملية غزو العراق في
المنطقة، مما جعلها تعمل بجد لبناء مقومات قوة إقليمية مستفيدة من الارتفاع الكبير
في أسعار النفط ومن التغيرات الحادثة نتيجة التدخل العسكري الأمريكي المباشر في
العراق، فقد أدى هذا التدخل إلى تفكيك مؤسسات الدولة العراقية، وحولو العراق من ند
لإيران إلى منطقة نفوذ لها، مما جعل إيران الدولة الأكثر نفوذاً وتأثيراً في العراق
بالرغم من الوجود العسكري الأمريكي.
تزايدت الدعوات الشعبية الأمريكية بشكل جلي بضرورة الإنسحاب من العراق لما تكبده
جيشه من تكاليف وخسائر، وإثر ذلك استسلمت الإدارة الامريكية "إدارة جورج بوش
الإبن" للنفوذ الايراني في العراق مما أثار حفيظة المملكة العربية السعودية،
وقد عبرو عن سخطهم على السياسة الأمريكية، وأبرز مثال ما جاء خلال مؤتمر القمة
العربية لعام 2007م.
ومع مجيء إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى الحكم، أعلنت الإدارة
الامريكية عن نيتها لسحب قواتها العسكرية من العراق نهاية 2011م، لكن الربيع
العربي جاء مطلع العام 2011م ولم يترك المجال لإيران أن تستكمل مشروعها الإقليمي
الذي بدأت به، فصحيح أن الربيع العربي ضرب خصوم إيران –نظاما مبارك والقذافي- لكنه
أيضاً ضرب حلفاءها –سوريا وانتقلت بعض آثاره إلى العراق.
ثانياً: السياسة الخارجية الأمريكية السعودية بعد الربيع العربي.
ظهرت الخلافات الأميركية السعودية على السطح نتيجة اختلاف قراءة الطرفين لمجموعة من القضايا والتطورات الإقليمية، كان أهمها
التعامل مع دول ثورات الربيع العربي وآخرها الانفتاح الأميركي على إيران، فقد اعتاد الساسة الامريكيين على التعامل مع نخب سياسية مسيطر عليها في
الدول العربية مما أعفاهم من مراقبة ردود أفعال الشارع العربي، ولذلك شكلت ثورات
الربيع العربي التي بدأت بتونس وامتدت لتشمل العديد من الدول العربية التحدي
الأبرز للإدارة الأمريكية –إدارة الرئيس باراك أوباما_ وأحدثت إرباك واضح في دوائر
صنع السياسة الخارجية للولايات المتحدة الامريكية، وما زاد عملية الارباك أن هذه
الثورات جاءت في وقت كانت الإدارة الامريكية مهتمة بتحقيق الاستقرار الاقليمي الذي
يفسح المجال أمام انسحاب قواتها من المنطقة بيسر، لكنها لم تكن في موقع تستطيع فيه
الوقوف إلى جانب قمع تحركات المجتمعات العربية التي جاءت على شكل انتفاضات شعبية
سلمية تسعي للحصول على الحرية والكرامة الانسانية، ولذلك قررت الولايات المتحدة
الامريكية مجاراة التغيير حتى لا تكرر خطأئها إبان ثورة 1979م الايرانية، عندما
تمسكت بالشاه وخسرت ايران، وحتى تتمكن من ضبط مسارات التغيير راحت تنسج علاقات مع
القوى الصاعدة ولذلك كان لزاماً عليها التخلي عن القوى الآفلة.
وفي الجانب المقابل كانت المملكة العربية السعودية تقود معسكر مقامة
التغيير خلال ثورات الربيع العربي، لذلك كان من الطبيعي أن تتعارض توجهاتها مع
توجهات السياسة الأمريكية التي جاءت مسايرة للتغيير، وبناءً على ذلك، نظرت المملكة
العربية السعودية بكثير من الشك إلى الموقف الأمريكي من الثورات العربية، ففي
الوقت التي رفضت فيه الولايات المتحدة الامريكية دعم التدخل السعودي الخليجي في
البحرين عام 2011م لقمع الانتفاضة الشيعية، قامت إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما
بالتخلي عن أهم حلفائها في المنطقة وهو الرئيس المصري محمد حسني مبارك، واعتبرت
ذلك مؤشراً خطيراً على سلوكها إزاء حلفائها في أوقات الأزمات.
وقد اعتبرت المملكة العربية السعودية الدعم الأمريكي لوصول الإسلاميين
للحكم في دول ثورات الربيع العربي أحد أهم نقاط الخلاف الأمريكي السعودي في سياق
الثورات العربية عموماً والثورة المصرية على وجه خاص، فقد أبدت الإدارة الأمريكية
استعدادها للتعامل مع التيارات الاسلامية المعتدلة، ورحبت بوصول الإخوان المسلمين
إلى سدة الحكم في مصر عن طريق صناديق الاقتراع، إشارة منها للمصالحة التاريخية بين
المصالح الامريكية والقيم الديمقراطية موضحه بأنه لا ديمقراطية ممكنة في المنطقة
العربية بمعزل عن قوى المعارضة وهي الحركات الاسلامية.
أثارت هذه السياسة قلقاً شديداً لدى المملكة العربية السعودية التي أصبح
ينظر لها –بموحب هذه السياسة- أنها من قوى الماضي، فيما ينظر للتيارات الاسلامية
التي تولت مناصب الحكم في تركيا ومصر على أنها قوى المستقبل التي يجب التعامل
معها.
ومن المفارقات الغريبة التي فرضتها ثورات الربيع العربي على المملكة
العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية هو تحول المملكة العربية السعودية
إلى داعم رئيسي لبقايا التيارات العلمانية الموجودة في المنطقة العربية، أما
الولايات المتحدة الامريكية اختارت أن تساير التيارات الصاعدة على حساب الآفلة،
فرحبت بوصول التيارات الاسلامية المعتدلة إلى سدة الحكم في دول ثورات الربيع
العربي، وأعربت عن استعداداها للتعامل معها.
ففي حالة الثورة المصرية أيدت السعودية الإطاحة بمحمد مرسي واعترفت بالنظام
الجديد في مصر، حيث أرسل الملك عبد الله رسالة تهنئة إلى الرئيس المصري عدلي
منصور، معتبراً "أن رجال القوات المسحلة أخرجوا مصر من نفق يعلم الله ابعاده
وتداعياته"، وجاء ذلك في الوقت الذي جمدت فيه الولايات المتحدة الأمريكية
جانب من معونتها لمصر كعقاب بعد الاطاحة بمحمد مرسي.
وانتفالاً للأزمة السورية فقد عبرت المملكة العربية السعودية مرات عديدة عن
استيائها من الموقف الأمريكي –الضعيف والمتردد- خلافاً لموقفها من أنظمة كانت تعد
حليفة للغرب كتونس ومصر، فقد اعتبرت هذه القضية من القضايا الخلافية التي نتجت من
الربيع العربي وسببت توتراً في العلاقات بين الولايات المتحدة الامريكية والمملكة
العربية السعودية، فقد أحجمت الولايات المتحدة الامريكية عن اتخاذ خطوات مؤثرة
تؤدي إلى رحيل النظام السوري واكتفت بفرض حزمة عقوبات اقتصادية لم يكن لها تأثير
على النظام السوري بسبب الدعم الكبير الذي تلقاه هذا النظام من حلفائه وتحديداً من
إيران، وبقي الموقف الأمريكي لأكثر من عامين يتراوح بين دعوة الرئيس بشار الأسد
للتنحي وبأنه فقد شرعيته وإدانة سياساته في التعاطي مع الأزمة، مع رفضها للتدخل
العسكري على غرار ما فعلت في ليبيا، وأيضاً رفضت تسليح المعارضة بحجة التخوف من
وقوع هذه الاسلحة في يد جماعات متشددة.
ارتأت المملكة العربية السعودية بأن اسقاط النظام السوري المؤيد لإيران
وإنشاء نظام بديل له يكون قريب منها هو من أهم أولوياتها الأمنية، حيث دعت
لاستخدام القوة العسكرية لإطاحة النظام السوري إما عبر تسليح المعارضة أو عبر تدخل
عسكري إقليمي أو دولي.
لذلك لم يكن مفاجئاً حجم الاستياء السعودي عندما تراجعت إدارة الرئيس الأمريكي
باراك أوباما عن توجيه ضربة عسكرية للنظام السوري بسبب استخدامه السلاح الكيماوي
في غوطتي دمشق في آب/أغسطس 2013م، إذ انتقدت المملكة العربية السعودية بشدة توجه
الأمريكيين إلى عقد اتفاق مع روسيا لتسليم الأسلحة الكيماوية السورية وتدميرها،
بدلاً من معاقبة النظام على فعلته.
وقد بلغ الاستياء السعودي من الموقف الامريكي بخصوص اتفاق الكيماوي السري
حد التهديد بوقف كل أشكال التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، وكبادرة
احتجاجية، رفضت السعودية في تشرين الأول/أكتوبر 2013م تسلم عضوية مقعد غير دائم
لمدة سنتين في مجلس الأمن الدولي جرى انتخابها لشغله، وتستكمل بهذه الخطوة مساراً
عندما قرر وزير خارجيتها الأمير سعود الفيصل إلغاء كلمة بلاده أمام الجمعية العامة،
وقد عللت المملكة العربية السعودية قرار رفضها العضوية بعجز مجلس الأمن عن وضع حد
فاصل وسريع لمعانة الشعب السوري وحملة الإبادة التي يشنها النظام السوري المؤيد
لإيران ضد شعبه مستخدماً كل أنواع الأسلحة التقليدية وغير التقليدية.
ومن جانب آخر، فقد شكلت إيران إلي جانب المملكة العربية السعودية الركن
الآخر في الاستراتيجية الأمريكية في منطقة الخليج العربي خلال عقود الحرب الباردة
الأولى 1946-1979م، ومنذ أن ساعدت الاستخبارات الأمريكية في إطاحة رئيس الوزراء
الإيراني الأسبق محمد مصدق وإعادة الشاه محمد رضى بهلوي إلى الحكم عام 1953م وحتى
الثورة الإيرانية عام 1979م، وساهمت الولايات المتحدة الأمريكية في تحويل إيران
إلى قوة عسكرية مركزية في الخليج العربي لصد المد الشيوعي من جهة، ولضمان أمن
إمدادات الطاقة من جهة أخرى.
دخلت الولايات المتحدة الأمريكية وإيران بحالة من العداء المستحكم خلال
فترة العقود الثلاثة الماضية، على الرغم من أن مصالح البلدين تقاطعت في بعض
الفترات خاصة خلال عهد الرئيس الأسبق محمد خاتمي، عندما قامت الولايات المتحدة
الأمريكية بغزو كل من أفغانستان والعراق، فإن العداء ظل السمة البارزة للعلاقات
بين البلدين حتى انتخاب الرئيس حسن روحاني عام 2013م وبدأت رحلة التقارب.
حيث شكل الكشف عن المفاوضات السرية الأمريكية الإيرانية التي بدأت منذ وصول
باراك أوباما إلى السلطة مطلع عام 2009م، وتكثيفها منذ أوآخر عام 2011م، صدمة
لحلفاء الولايات المتحدة الأمريكية في الخليج العربي وتحديداً للمملكة العربية
السعودية، وذلك على الرغم من بدء الحديث عن تقارب أمريكي إيراني منذ انتخاب حسن
روحاني في العام 2013م وقد أسفرت هذه المفاوضات عن الإعلان عن التوصل إلى اتفاق
مرحلي في جنيف في 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2013م لحل أزمة البرنامج النووي الإيراني
والتي استمرت نحو عشر سنوات.
جاء رد فعل المملكة العربية السعودية على الاتفاق النووي مرتبكاً، فرفضته
أول الأمر، ثم رحبت به بشرط توافر حسن النوايا، فعادت بعد ذلك وحذرت من الصفقة،
مما يوضح بأنها لم تكن تشعر بارتياح تجاه التقارب الأمريكي الإيراني فضلاً عن أنها
كانت متفاجئة عن عقد الاتفاق الذي جرى بغير علمها.
من جهة أخرى، اعتبرت المملكة العربية السعودية أن الاتفاق لا يقلص مشاكلها
مع إيران ولا يعالج قضايا تعتبر أكثر أهمية بالنسبة إليها، فالموضوع النووي مع
أهميته لا يشكل المفصل الوحيد والرئيس في العلاقات بين المملكة العربية السعودية
وايران، فهناك موضوع التدخل الايراني في الشئون الداخلية لدول الخليج العربي
ومحاولة زعزعة الاستقرار في بعضها، فضلاً عن محاولات بناء قوة إقليمية ايرانية
مهيمنة عبر إنشاء قواعد نفوذ وتأثير في سوريا والعراق واليمن ولبنان وغيرها، كما
أن تخلي إيران عن برنامجها النووي لا يعني أن التهديد الايراني قد زال، فالتهديد
الحقيقي بالنسبة للمملكة العربية السعودية وغيرها من دول الخليج العربي يتمثل في
ترسانة الأسلحة التقليدية التي تمتلكها إيران.
ثالثاً: مستقبل العلاقات الامريكية السعودية.
لقد أثرت أحداث الربيع العربي بشكل كبير في رؤية الولايات المتحدة
الأمريكية تجاه المنطقة العربية عموماً، بغض النظر عن مدى مسئولية الولايات
المتحدة الأمريكية عن بعض نتائجها وإخفافاتها، "ومن الواضح أن الاحساس
بالإخفاق والفشل في التعاطي مع تطورات الربيع العربي والدفع بها نحو النتائج
المرجوة أدى إلى ردود فعل بلغت في حدها الأقصى المطالبة بتهميش المنطقة العربية
بصورة كاملة، وفي حدها الأدني إعادة لتعريف مصالحها"، وفي النهاية تبين
للولايات المتحدة الأمريكية أنه لن يكون هناك ربيع في إيران ولا ثورة ولا انتفاضة،
وحتى لو حصل ذلك فقد أدركت بأن هذا قد لا يكون بالضرورة لمصلحتها، ووسط هذه الفوضى
وحالة عدم اليقين بدأت الولايات المتحدة الامريكية إعادة تعريف لمصالحها في
المنطقة والتفكير باستراتيجيات بديلة لحمايتها.
وفي سياق هذا المشهد، برزت حدة التناقضات في رؤية كلاً من الولايات المتحدة
الامريكية والمملكة العربية السعودية لما يجري، ففي حين عبر السعوديين عن صعوبة في
فهم سبب عدم استغلال الادارة الامريكية الفرصة التي أتاحتها الأزمة السورية لتصحيح
الخطأ الذي ارتكبته الولايات المتحدة الأمريكية في العراق وأدى إلي تعزيز نفوذ
إيران الاقليمي.
إن العلاقات الأمريكية السعودية التي كانت تقوم بالأساس على مبدأ الأمن
مقابل النفط بدأت تتغير بسبب اكتشافات النفط والغاز الصخري في أمريكيا لكنها لن
تنتهي، فمن جهة لا توجد أي تقديرات تشير إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية سوف
تحقق اكتفاء ذاتي كامل من النفوط السائلة حتى عام 2040م، ومن جهة أخرى فإن اهتمام
الولايات المتحدة الأمريكية بنفط الخليج العربي لم يقتصر على تلبية حاجاتها
المحلية من الطاقة بل كانت له منافع ذات بعد اقتصادي واستراتيجي.
في النهاية، لا يمكننا أن نفسر ازدياد الاهتمام الأمريكي بمنطقة آسيا
والمحيط الهادي انسحاب من منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي، لأن لها مصالح ذات
بعد اقتصادي واستراتيجي واضحة بها، ومع كل ذلك لا يبدوا أن الولايات المتحدة
الأمريكية تتجه إلى الانسحاب من منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط، بل من الواضح
أنها تتجه لإعادة تعريف مصالحها وعلاقاتها من جديد.
الخاتمة:
يمكن القول أن العلاقات الأمريكية السعودية سوف تستمر بتأثير عوامل مرتبطة
بالنظام الدولي والاقليمي وميزان القوى الذي تسعي الولايات المتحدة الأمريكية
لإعادة بنائه في المنطقة، وعلى الرغم من الاختلاف في قراءة كل طرف مصالحه تجاه
القضايا الاقليمية المختلفة إلا أن تداخل المصالح الأمريكية السعودية وتشابكها
يفرض على الطرفين الاستمرار في التعاون بشكل وثيق، أما نمط العلاقات القديمة التي
حكمت بينهم سوف تتغير وبخاصة مع دخول ايران في منطقة نفوذ التأثير واتجاه الولايات
المتحدة الأمريكية إلى تحسين العلاقات معها، "وهذا يدعو المملكة العربية
السعودية بأن تنوع علاقاتها وتحالفاتها الاقليمية والدولية من جهة، وتجاوز العقبات
التي تحول دون بناء منظمة أمنية وسياسية واقتصادية متكاملة لدول الخليج العربي من
جهة أخرى، لأن الركون بشكل مطلق إلي واشنطن أصبح خياراً غير واقعي".
بدأت المملكة العربية السعودية بتأدية دوراً أكثر فاعلية في الدفاع عن
مصالحها خلال فترة ثورات الربيع العربي، وأعطت الأولوية المطلقة للمصالح العربية
والسعودية، فكانت على مر ستة عقود من التحالف الأمريكي السعودي تعطي المصالح
الأمريكية الأولوية دوماً، في حين ظلت المملكة العربية السعودية تكتفي بدور
المساير للولايات المتحدة الامريكية حتى لو كان على حساب مصالحها في بعض الأحيان،
وبما أن الولايات المتحدة الامريكية تقوم بإعادة تعريف مصالحها وعلاقتها مع
المملكة العربية السعودية بما يتوافق مع المستجدات الاقليمية والدولية، يتعين على
المملكة العربية السعودية أن تعيد تعريف علاقتها أيضاً بالولايات المتحدة
الامريكية، ليس عبر تهديدات مبطنة ليس لها أي مردود وإنما عبر القيام بدور فاعل في
رسم مستقبل المنطقة والمشاركة المباشرة في صنع السياسات وخلق الفرص الاقليمية
والدولية أو تجييرها لمصلحتها.